يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم ‌وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (البقرة: ٢١٦)، والخطاب في هذه الآية موجه إلى المسلمين، وأعداؤهم يومئذ المشركون، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله، وقد كان النبي غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام، ثم أذن له في ذلك بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39] ، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190].

ولما ظهر من المسلمين الثقل في النهوض لمواجهة الأعداء ومنازلتهم في ميادين القتال، وكانوا يكرهون القتال نزلت الآية، فقال: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}، يقول: إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا تَسْتَشْهِدوا، ولا تُصِيبوا شيئًا[1].

والكره في الآية بضم الكاف؛ أي: الشّاق على النّفس، والثّقيل، ولكنها مشقة مرغوبة بها من قبل صاحبها، ومقرونة بالإرادة والرّغبة؛ للقيام بها لما يترتب عليها من ثمار، أو ثواب.  ووردت هذه الكلمة ثلاث مرات في القرآن مرتين في الحمل، ومرة في الجهاد[2].

والقتال المأمور كما حكى القرآن ثقيل على المسلمين بسبب الأعباء والمشاق المصاحبة له، لما فيه من بذل المال وتعريض النفس إلى الهلاك، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بما يكلف به الإنسان، فهو قد يرضى بتناول المر لما فيه من النفع[3].

ولا يفهم من الآية الكريمة أن الصحابة رضوان الله عليهم كارهون للقتال ومعترضون على هذا التكليف، لأن الكره المذكور هو كراهية الطبع لهذا الأمر، ولا تنافي التكليف به برضا، فإن أكثر التكليف لا يخلو من بعض المشقة.

وأحسن العلامة ابن عاشور في تأويل هذه الآية، فقال:

– إن كانت الآية خبرا عن تشريع مضى، يحتمل أن تكون جملة (وهو كره) حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلا عليهم، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية.

 – فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كرهوا الصلح واستحبوا القتال، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيرا لهم بأن الله أعلم بمصالحهم، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال، فحذف ذلك لقرينة المقام، والمقصود الإفضاء إلى قوله: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم[4].

وتناول ابن القيم جوانب من أسرار هذه الآية الكريمة فقال:

في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والمحبوب قد يأتي بالمكروه لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة، لعدم علمه بالعواقب فإن الله يعلم منها مالا يعلمه العبد وأوجب له ذلك أمورا:

– منها أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه، وإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب، وخاصية العقل تحمل الألم اليسير؛ لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبه من الألم العظيم والشر الطويل.

فنظر الجاهل لا يجاوز المباديء إلى غاياتها، والعاقل الكيس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها، فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة، فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل، فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم، ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفض إلى العافية والشفاء، وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول، ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها، وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق، لما يؤول عند الغاية، فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة.

ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجو فيه من حسن العاقبة.

ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئا، بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضيه بما يختاره، فلا أنفع له من ذلك.

ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له، أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.

ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منه في عقبة وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه؛ لأنه مع اختياره لنفسه.

ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه اللطف به فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يهون عليه ما قدره، إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام، وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة[5].


[1]  موسوعة التفسير المأثور (3/ 688)

[2]  تفسير القرآن الثري الجامع (2/ 75)

[3]  التفسير المنير – الزحيلي (2/ 260)

[4]  التحرير والتنوير (2/ 321).

[5]  الفوائد لابن القيم – ط العلمية (ص138).