الحبس واحد من أفظع ما يمكن للمرء أن يمر به! فهو تقييد للحرية، وتكبيل للفعالية، وعزلٌ عن الحياةِ الطبيعية..وحين يعيش المرء تجربة السجن؛ يجد نفسه أمام اختلالٍ في مقدار ما يملكه من حيزي الزمان والمكان! فهو يملك الكثير من الوقت، ولا يملك إلا حيزاً ضئيلاً من الإمكانات التي يمكنه بها التخفف من عبء الوقت! فحركة السجين محدودة، وخياراته في الاستمتاع والتزود بالجديد ضئيلة، والوجوه التي يلقاها مكرورة وربما كانت مملولة، ولا تخلو السجون من منغصاتٍ مختلفةٍ تختلف باختلاف السجون في دركات التنكيل بنزلائها المغلوبين على أمرهم!

 

ففي بعض السجون تعذيب جسدي، أو نفسي، وفي بعضها حشراتٌ وهوام، وفي بعضها رفقة مزعجة، وفي بعضها حرمان من النوم المريح، وتقتير في الطعام، ومنعٌ للزيارات، ومعاملة سيئة، وأشياء أخرى!

ومهما تكن المعاملة في السجن حسنةً، وظروف الحياةِ مقبولةً، فإن السجن يبقى عذاباً، والحبس يظل نكالاً، تنفعل النفس معه على نحوٍ يضر بها وربما يدمرها!

يلجأ السجين إلى حيلٍ كثيرةٍ للتغلب على الوقت الذي يمضي بطيئاً، ثقيلاً، ومن جميل ما يتمتع به الإنسانُ أن بوسع خياله أن يتخطى أسوار السجن، وبإمكان عقله أن يتجول حيث شاء، مهما يكن واقع السجن مراً.

وعلى مر التاريخ، نجح عدد من المساجين في حبس السجن داخلهم، وخرجوا من ضيق الزنزانة إلى سعة الكتابة، على النسق الذي يختصره عنوان كتاب الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش: “هروبي إلى الحرية” الذي حوى تأملاته في مختلف شؤون الحياة خلال سنوات السجن.

وقد يكون من المفيد -في هذه المساحة المحدودة- الحديث عن بعض أولئك الذين نجحوا في الهرب من السجن إلى الحياة على صهوة المداد لا على ظهور الجياد!

كان أبو بكر، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرَخْسي، واحداً من العلماء الربانيين، الذين عرفهم القرن الخامس الهجري، وحدَثَ أنّه قال نصيحةً ما لواحد من الأمراء؛ كوفئ عليها بالحبس في جُبٍ، يدلّى إليه طعامه وشرابه.. وقد استطاع التغلب على مرور الزمن بإملاء كتابه: “المبسوط في الفقه”، كان تلامذته يقفون في الأعلى، وهو يلقي على مسامعهم عباراته؛ فيدونونها.. كان السرخسي يتحدث بتدفق، ويسهب في الحديث، ويناقش المسائل الفقهية الخلافية، ويرجح، وينتصر لمذهبه، وما زال الزمان يدور حتى اختتم الكتاب الذي جاء في أربعة عشر مجلداً.

ولجأ السرخسي إلى مغالبة الوقت بانتهاج حيلة مماثلة، فشرع يملي على تلامذته كتاباً آخر، هو “شرح السير الكبير” وقد أطلِق سراحُه قبل أن يتم تأليف كتابه الثاني!

ويطالعنا أنموذج آخر للخارجين من ضيق الزنزانة إلى سعة الكتابة، هو شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي قضى خاتمة حياته متنقلاً بين أكثر من سجن، وكانت المحطة الختامية سجن قلعة دمشق، وقد روعيت مكانته العلمية وسنواته الخمس والستون في سجنه الأخير: إذ أتيح له أن يأنس بمرافق ممن يحب، وبخادم يخدمه، وبكفايته من القوت، كما سُمح له بالكتابة، فكان يمضي وقته بين العبادة والتأليف.. ويكتب بسرعة فائقة اشتهر بها، فإذا استتم تأليف كتاب ما؛ خرج ذلك الكتاب من السجن فذاع في الآفاق بدل مؤلفه الحبيس! وكان من ضمن مؤلفاته في السجن: كتاب “الرد على الإخنائي” وهو قاضٍ من خصوم ابن تيمية وله نفوذ في الدولة، استطاع إقناع السلطات بالتضييق على ابن تيمية ومنعه من الكتابة..

ولما مُنع ابن تيمية من الكتابة؛ ذوى ومات!

وعرف تاريخنا الحديث عدداً من الذين أنجزوا مؤلفات وهم وراء قضبان السجون: كعبدالله  بن الصديق الغماري، الذي مكث نحواً من عشر سنوات في سجون عبدالناصر أنجز أثناءها عدداً من الكتب. وسيد قطب، الذي ألف سِفره الشهير “في ظلال القرآن” في سجون عبدالناصر كذلك..

ويحكي الدكتور طالب البغدادي، أحد الذين نال منهم السجن نصيباً وافراً، فيقول في كتابه “حكايتي مع صدام” عن مرحلة من مراحل السجن برفقة صديقه الدكتور عبدالله السلومي: “وافقت إدارة السجن على إدخال الكتب إلينا وجاءت زوجاتنا بما كنّا نطلبه من كتب ومراجع. وقد أنجز كل منا عدة مشاريع ثقافية، فقد قمت بترجمة كتاب (الحساب الاقتصادي) لشارل بتلهايم وهو من الكتب النظرية المهمة جداً والصعبة جداً في الاقتصاد الماركسي، وأنجزت ترجمة كتاب (النقود لدى ماركس) لسوزان برونهوف، وكتبت مقالاً مهماً في الرد على الدكتور جلال أحمد أمين حول التخلف الاقتصادي، وبحثاً مهماً حول النقود والأسعار، وكذلك رواية أسميتها (درّ وحماد) أهديتها إلى طفليّ حراء وذي الفقار”.

ويذكر ياسين الحاج صالح الذي أمضى في سجون النظام السوري ستة عشر عاماً وثّقها في كتابه “بالخلاص يا شباب”، أنه كان يكتب وهو في السجن.. وكان له أخٌ قضى ست سنوات في السجن، أمضاها وهو يكتب روايةً، ثم يعيد كتابتها! ويبدو أن “فعل الكتابة” كان مهربه من ضيق السجن، بغض النظر عن النشر؛ لأنه بعد أن أفرج عنه؛ لم يفرج عن روايته.

ولا تتسع مساحة هذه المقالة للإسهاب في الحديث عن الهاربين من الزنازين الضيقة إلى الحياة الواسعة.. ولكن من اللازم الإشارة ختاماً إلى تجربة كارلوس ليسكانو، الذي أمضى سنوات من حياته سجيناً سياسياً بالأوروغواي، وفي سجنه ولدت شخصيتُه الكاتبة، وأنجز باكورة أعماله الروائية “قصر الطاغية” وكان يمضي اثنتي عشرة ساعةً يومياً وهو يضيف كلمة إلى كلمة، وفقرة إلى فقرة حتى اكتمل بنيان روايته.

وهكذا، يصبح القلم، بحجمه الضئيل، أشبه بسفينة فضاء، وتصبح القراطيس الفارغة فضاءً يجد فيه الكاتب من الحرية ما ينسيه هموم الحبس وقيوده ولو إلى حين!