كان الشيخ الغزالي شديد العناية بالتاريخ، كثير الاستشهاد بِعِبَره ودروسه؛ وهو في هذا يَصْدُر عن فَهْمٍ حسنٍ عميق بالقرآن الكريم الذي أمر بالسير في الأرض والنظر فيها، وبالتدبر في أحوال الغابرين وتجنب زلاتهم؛ فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (الأنعام: 11).

 

وتتمثل أهم ملامح القراءة الغزالية للتاريخ فيما يلي:

أولاً:الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي: فقد أكد الشيخ أن “هناك بواعث مُلحة على إعادة كتابة التاريخ الإسلامي حتى القرن الخامس عشر للهجرة؛ يتعاون فيها جملة من العلماء الثقات والمحققين المهرة. إن المآخذ كثيرة على السرد التاريخي الشائع بيننا؛ وهى مآخذ تجعل هذا التاريخ لا يخدم الشخصية الإسلامية، ولا يحقق المنافع المرجوة منه تربويا وسياسيا”([1]).

ثانيًا:عدم تقديم صورة مثالية عن تاريخنا:لأنه تاريخ بشر غير معصومين، يجوز في حقهم الصواب والخطأ؛ ولذا، “لا غرابة في وجود أخطاء في تاريخنا الثقافي والسياسي؛ إنما الغرابة في التستر على هذه الأخطاء أو الاستحماق في معالجتها والتعفية على آثارها. وجمهور المسلمين يعلم أن سلفنا الأول شغله قتال الاستعمارين الرومي والمجوسي- ولعله أشرف قتال عرفته الدنيا- ولكنه يشعر بغضاضة وألم لما أعقب ذلك من قتال داخلي بين المسلمين أنفسهم، كانت له آثار بعيدة المدى على حاضرهم ومستقبلهم”([2]).

ثالثًا:ضرورة التمييز بين الإسلام كمنهج إلهي، والتاريخ كسلوك بشري: حتى لا نسيء للإسلام، ونحمله أخطاء أتباعه، كما يفعل البعض بقصد الطعن في الإسلام.

يقول الشيخ: “نريد أن نضع فواصل بارزة بين التعاليم الإسلامية والتقاليد العربية؛ فإن الأخيرة غلبت الأولى في مجالات كثيرة. إن أسرتين عربيتين احتكرتا في ذراريهما مهام الخلافة العظمى بضعة قرون، إلى أن سقط الإسلام بحكامه هؤلاء تحت وطأة التتار في بغداد، وتحت وطأة الصليبيين في الأندلس، بأي منطق وقع ذلك؟ إن دينًا عالميَّ الشرائع والشعائر لا يحتمل هذا السفه! وجاء العثمانيون فقلدوا العرب!… وأرى أن الروح القَبَلية عند العرب كانت من وراء هذا الانحدار كله، قديمه وحديثه. وعلى العرب أن يحترموا الإسلام، وليس على تعاليم الإسلام أن تلين للتقاليد العربية”([3]).

رابعًا: التحذير من إبراز سلبيات التاريخ وحدها:فقد دعا رحمه الله إلى تناول الإيجابيات والسلبيات معًا، بتوازن وإنصاف؛ لا كما يفعل البعض بهدف التشويه. فرفض الشيخ “إبراز السلبيات وإخفاء للمحامد والأمجاد؛ وكأنما كان التاريخ للفتن وحدها!!.. أما الخير الكثير لسلفنا الأول، فكأنما وُضعت فوقه حُجب.. لا أريد إنكار أخطائنا، وإنما أريد ألا تعدو وضعها الثانوي بعد بيان ما أدينا للدين والدنيا!

لحساب من يتم هذا الغمط؟!”([4]).

خامسًا: بيان أن دراستنا للتاريخ منقوصة من ناحية الكم والكيف: أي من ناحية رقعته الجغرافية، ومن ناحية الأسباب الحقيقية وراء أحداثه.

فعن القصور في ناحية الكم، قال الشيخ: “وأول ما نلاحظه أنه- من ناحية الكم- ناقص؛ فالمسلمون خمس العالم تقريبًا، وقد دخلت في دين الله أجناس شتى، فمع العرب الترك والفرس والأكراد، والهنود والزنوج، وأجيال من الصين والمغول والإندونيسيين والماليزيين، وهى أجناس تنتشر بين المحيط الهادي والهندي والأطلسي، ثم هناك جماعات غفيرة في طول أوربا وعرضها، وأخرى في الأمريكتين! والتاريخ الذي يدرس هو لجماعة محدودة من المسلمين تسكن ما يسمى الآن الشرق الأوسط، يهتم فيه العرب بأنفسهم وحدها!”([5]).

وأما من ناحية الكيف، فقال: “وإذا كان التاريخ الشائع الآن منقوصًا من ناحية (الكم)، فهو منقوص كذلك من ناحية (الكيف)! ولا يزال التلامذة في المدارس يقرأون أن بغداد عاصمة الخلافة العباسية سقطت في أيدي التتار وحدهم، وأن هذا الجنس الفوضوي أغار على قاعدة الإسلام بدوافعه الخاصة. وما يدرسه التلاميذ غلط كبير، والأوربيون يدرسون ما وقع في دار الإسلام على أنه غارة مغولية صليبية، قام فيها التتار بالدور الذي تقرر عليهم، وقام الصليبيون بدور مماثل. وقد كان رسل الكنيسة الغربية ناشطين داخل دولة الخلافة وحولها والمسلمون نيام! ومعروف أن القائد العام التتاري كان نصرانيًّا، وأن زوجة هولاكو كانت نصرانية، وأن الأقليات الدينية كانت تشعر بما وراء الأكمة، وقد تحركت عند اقتحام التتار المدينة المنكوبة، وسجل ابن كثير في (البداية والنهاية) شماتتها وفرحتها، وكان رحمه الله لا يدرى السبب!!.. لقد قرأت عن فضل الحملة الفرنسية على مصر! وقرأت عن فضل الاحتلال الإنكليزي لمصر! ورأيت صحائف ملأى بالزور عن حقب شتى”([6]).

إن هذه النظرات العميقة التي قدمها الشيخ في مجال بعيد عن تخصصه الأساسي؛ لتدلنا على عمق ثقافته، وشمول فكره، وتضع أيدينا على سر قراءته التجديدية لمنهج الإسلام ولحركة المسلمين.. وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة..!


([1]) “تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل”، الغزالي، ص: 105.

([2]) “مائة سؤال عن الإسلام”، الغزالي، ج2، ص353.

([3]) المصدر نفسه، ص: 354، 355.

([4]) “تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل”، الغزالي، ص: 115.

([5]) المصدر نفسه، ص: 105.

([6]) المصدر نفسه، ص: 106، 107.