مدح الله تعالى المؤمنين في مطلع سورة المؤمنون وذكر لهم عشر صفات مقرونة بالفلاح المحقق، {قد أفلح المؤمنون} فأول صفاتهم المؤكد لهم الفلاح والنجاح هو الخشوع في الصلاة، {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] وكان يقول أحمد بن عطاء: الخشوع في الصلاة علامة الفلاح[1] استنادا للآية. وفُسر الخشوع بلين القلب وكف الجوارح، وأن يستحضر المصلي أنه واقف بين يدي ملك الملوك يناجيه وأنه ربما رد صلاته ولم يقبلها.[2]

وقال عليه الصلاة والسلام: “إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها نصفها”[3] نظرا لدرجة مستوى صحبة الخشوع وانكساره بين يدي الله.

وعن الحسن رحمه الله: “كل صلاة لا يحضرها قلبك فهي إلى العقوبة أسرع منها إلى الثواب”[4]

ولمكانة الخشوع وأهميته اختلف العلماء في حكمه بين كونه فرضا من فرائض الصلاة أم لا، وهذا يدعو إلى البحث عن الوسائل المعينة للارتقاء في تحقيق الخشوع وتجويده في الصلاة ولو لم يبلغ درجة الكمال، وأعظم الوسيلة إلى تحصيل ذلك هو محاولة استحضار القلب وحضوره بين يدي الله أثناء أداء الصلاة مستشعرا بقربه منه سبحانه وتعالى، وإذا خشع القلب خشعت الجوارح وسكنت الأعضاء فتغيب الوساوس المفسدة والأفكار الأجنبية الجانية، فالبصر عنصر فعال في ضبط خشوع المصلي من أول الصلاة إلى نهايتها، ولذا ترتبت الأحكام على إدارة البصر وأحواله في الصلاة مما يتعين على المصلى الناصح لنفسه معرفة أحكام تصرفات عينه في الصلاة من حيث الاستحباب والجواز وعدمه حتى يتلذذ بلذة الطمأنينة وحلاوة المناجاة والأنس فيسجل في زمرة الخاشعين المفلحين.

حركات البصر في الصلاة

لا تخلو حركات البصر وأحوالها في الصلاة من أربع حالات، ومحصلها في الآتي:

الحالة الأولى: حالة الاستحباب

تكاد تتفق أقوال أهل العلم على أنه يستحب للمصلي أن يجعل نظره موضع السجود وأن لا يفارقه أو يجاوزه إلا في حالة التشهد؛ حيث يسن رفع الإصبع السبابة والنظر إليه.

قال الإمام أحمد حنبل:” الخشوع في الصلاة أن يجعل نظره إلى موضع سجوده.[5]

وحكي عن شريك أنه قال:” ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده، وفي ركوعه إلى قدميه، وفي حال سجوده إلى أنفه، وفي حال التشهد إلى حجره.”[6]

وقال الحافظ ابن حجر:” ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم؛ فيستحب للإمام النظر إلى موضع السجود وكذا للمأموم؛ إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه. وأما المنفرد؛ فحكمه حكم الإمام”[7]

وينبه على أنه لم تثبت رواية مرفوعة في الباب، ومن أشهر ما يستدل به هو أثر مروي عن عبد الله بن عون عن ابن سرين: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء تدور عيناه ينظر هاهنا وهاهنا فأنزل الله عز وجل {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2] فطأطأ ابن عون رأسه ونكس في الأرض”[8]

وفي رواية عنه: كانوا يرفعون أبصارهم في الصلاة ويلتفتون يمينا وشمالا حتى نزلت هذه الآية {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2] قال: فلم يلتفتوا يمينا ولا شمالا”[9].

وعن قتادة فى قوله تعالى: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}. قال: الخشوع فى القلب وإلباد البصر فى الصلاة[10] أي إلزامه موضع السجود فى الصلاة.[11]

الحالة الثانية: حالة الجواز

يجوز للمصلي النظر إلى قبلته في الصلاة، بل ذهب الإمام مالك إلى استحباب ذلك، وقد قال القرطبي رحمه الله في تفسير آية {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن المصلي حكمه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده.[12]

وللمصلي أيضا جواز النظر إلى إمامه في أثناء الصلاة، وقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه:” باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة ” وأورد فيه بعض الأحاديث الدالة على ذلك، ومنها حديث خباب رضي الله عنه أنه قيل له: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فى الظهر والعصر؟ قال: نعم. وذكر أنهم يعرفون قراءته عليه الصلاة والسلام باضطراب لحيته[13]. مما يدل على جواز نظر المصلي إلى إمامه ولا سيما عند الحاجة.

وكذا يجوز أن يتجه بصر المصلي جهة العدو أو متاعه ونحوهما عند الخوف.

الحالة الثالثة: حالة الكراهة

لم يختلف قول العلماء في كراهة التفات عين المصلي أو رأسه في الصلاة، أي إذا التفت برأسه وبدنه مستقبل القبلة دون الحاجة؛ فإنه يعد فعل مكروه من مكروهات الصلاة، استنادا لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها حيث سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد [14]

“ويكره أيضا في الصلاة تغميض العينين إلا لحاجة، ولا يعلم في ذلك خلاف”.[15]

قال ابن القيم: “ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة… فكرهه الإمام أحمد وغيره وقد كرهه الإمام أحمد وقالوا: “هو فعل اليهود”….

والصواب إن كان تفتيح العينين لا يُخل بالخشوع فهو أفضل وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه، فهنالك لا يكره التغميض قطعاً، والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة “.[16]

ومن النظر المكروه النظر إلى الملهيات في الصلاة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي»[17]  ولحديث عائشة آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فقال: “شغلتنى أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم، وأتونى بأنبجانيه” [18]

الحالة الرابعة: حالة نقل فيها التحريم

يمنع النظر إلى السماء في الصلاة منعا أكيدا لقوله صلى الله عليه وسلم:” لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم”[19].

والظاهر من هذا الحديث كما قال الشوكاني أنَّ رفع البصر إلى السماء حال الصلاة حرامٌ؛ لأنَّ العقوبة بالعمى لا تكون إلَّا على مُحرَّم.[20]

ولهذا قال الشيخ ابن العثيمين نقلا عن بعض العلماءِ: إنَّ الإنسان إذا رَفَعَ بصرَه إلى السماءِ وهو يُصلِّي بطَلتْ صلاتهُ، واستدلوا لذلك بدليلين:

الأول: أنه انصرف بوجهه عن جهة القبلة، لأن الكعبة في الأرض، وليست في السماء.

الثاني: أنه فعل محرما منهيا عنه في الصلاة بخصوصها، وفعل المحرم المنهي عنه في العبادة بخصوصها يقتضي بطلانها[21].

قال عياض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة.[22]

قال ابنُ حزم: “ولا يحل للمصلي أن يرفع بصره إلى السماء..” وقال بأن ” الوعيد لا يكون إلا على كبيرة من الحرام، لا على مباح مكروه أصلا، ولا على صغيرة مغفورة”[23] ثم خطأ ابن حزم من لم يجنح لهذا القول من المذاهب بعد وضوح النص بتحريم الفعل وشدة الوعيد فيه، مع أنهم أبطلوا الصلاة بأفعال أخرى لم يرد فيها الوعيد مثل هذا.

وقال أبو العباس ابن تيميّة:” فلمَّا كان رفْع البصر إلى السماء ينافي الخشوعَ، حرَّمَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتوعَّد عليه”[24]

ويلتحق بالتحريم والبطلان الالتفات بالبصر الذي يصحبه جميع البدن عن القبلة، بحيث يتحول المصلي إلى جهة اليمين أو جهة اليسار مثلا، فإن الصلاة في هذه الحال باطلة بلا الخلاف.

والشاهد من هذا كله، أن المصلي لينصرف من صلاته فيكتب له الثواب على قدر حسن إقامته للصلاة وتحقق الخشوع والإقبال فيها، فبصره ونظره أقوى قناة من قنوات حضور القلب والخشوع في الصلاة، فيجب إحكامه وضبطه كما أمر، كي يخرج من صلاته منصرفا بالأجر التام أو نحوه.


[1] حليةالأولياء 10/383

[2] ينظر السراج الوهاج ص:51

[3] رواه أحمد (18894)

[4] قوت القلوب لأبي طالب المكي: 2/ 170

[5] المغني 2/8

[6] الدين الخالص 2/266

[7] الفتح 2/232

[8] السنن الكبرى (3539)

[9] تعظيم قدر الصلاة (136)

[10] السنن الكبرى (3569)

[11] غريب الحديث لابن الجوزى 2/ 312

[12] الجامع لأحكام القرآن 2/ 154

[13] ينظر صحيح البخاري (746)

[14] رواه البخاري (751)

[15] الموسوعة الفقهية 8/99

[16] زاد المعاد 1/283 – 285

[17] رواه البخاري (374)

[18] متفق عليه

[19] متفق عليه

[20] نيل الأوطار 2/221.

[21] الشرح الممتع 3/40

[22] فتح الباري 2/233

[23] المحلى 2/330

[24] مجموع الفتاوى 22/559