كتابفرضية التنمية المركبة: استعادة الإنسان المتعدِّد الأبعاد” هو مكمّل ومزيد ومتعمّق في كتاب المؤلف السابق الموسوم بـ “مسالك التنمية المركَّبة: الأنموذج الياباني والمستقبل العربي” المنشور في المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن عام 2019م.

في هذا الكتاب الأخير استحضر المؤلف الأنموذج الإنمائي الياباني، وتوسّل به الإفادة التي فيها استمالة واستطالة، وليس الإعادة التي فيها استحالة واستكانة. ووقف الكتاب على أن اليابان –ما بعد الحرب العالمية الثانية– نُسفَت معظم مكتسباتها المادية؛ ولكن وقف الإنسان الياباني مقاوما يحتفظ بروح الإنجاز والعطاء، والقابلية لإعادة البناء؛ حيث تعاضدت السلطة والعامة والنخبة (س، ع، ن)، وناضلت من أجل استعادة الإنسان واليابان.

إنسانٌ منفتحٌ على تراثه الديني والمعرفي المتعدِّد الأبعاد، ويابان منفتحة على احتمالات العصر الذي أخضعها لمنطق إيديولوجيته الاقتصادية أو الشيئية الأحادية البُعد؛ فلم تقف اليابان تراقب العالم بنظرة شيئية أحادية مغلقة، بل كانت تراقبه –وما زالت- بعيون إنسان ياباني متعدِّد الأبعاد؛ الشيئية والدينية والمعرفية (ش، د، م). عيونٌ تقلِّب النظر في كل الزوايا والأبعاد؛ إذْ أوقفت الإنسان الياباني خادما لبلده اليابان، واستمرّت اليابان وفيّة لهذا الإنسان بإطلاق قدراته وتحريك مواهبه واستثمار جهوده؛ وهو ما بجس فرضية التنمية المركبة، هي نفسها التركيب الإنساني (س، ع، ن) والإنمائي (ش، د، م)؛ حيث تتعامل السلطة -التي تمتلك الشيء- مع الدين والمعرفة من منطلق الإثراء وليس الإقصاء، وتستفيد العامة -التي تميل إلى الدين- من الشيء والمعرفة لتحرير قدراتها وإطلاق مواهبها، وتقف النخبة -التي تمتلك المعرفة- من الشيء والدين موقف المبتكِر للشيء والمجتهد في تجديد الدين. وفي هذه الحالة التركيبية والتشابكية والتفاهمية والتعاونية تحصل التنمية المركَّبة، ويُستعاد الإنسان المتعدِّد الأبعاد.

ذلك بخلاف التنمية المختزَلة التي ما برحت تأخذ بخناق الدول الريعية في العالم العربي؛ حيث بدا أن الشيءَ قد وقف حكَما غير ناطق، أبقى على الدين والمعرفة غير ناطقين، وجامدين غير فاعلين؛ وهو ما أفضى إلى تفكيك (س، ع، ن) بأدوات (ش، د، م)؛ إذ يُختزَل الشيء في السلطة، والدين في العامة، والمعرفة في النخبة؛ فتتعطّل المؤسسات الاقتصادية والدينية والمعرفية، ولا تؤدي وظيفتها الإنسانية والحضارية والكونية؛ حيث هذا هو حال الإنسان في العالم العربي والمآل الذي جبسه فحبسه.

في كتاب فرضية التنمية المركبة: استعادة الإنسان المتعدِّد الأبعاد”، يبحث المؤلف عن مكمن الخلل الإنساني والإنمائي في العالم العربي أو عالم المسلم؛ فيسعى لتشخيصه وإيجاد الأدواء المناسبة له، ما بلغ وسعه من اجتهاد. حيث رأى وارتأى ضرورة الالتزام بعقد سياسي واجتماعي وديني ينظّم عملية التركيب بين (س، ع، ن)، ويوزِّع  (ش، د، م) على (س، ع، ن) بعدالة ومساواة، يكون فيها إطلاق قدرات العامة وتحريرها من الحرمان أساس كل عدالة؛ بحيث يسري هذا العقد المؤسسي على جميع المؤسّسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويكون منصوصا عليه في وثائق هذه المؤسّسات الرسمية والأهلية، وقائما مثْبتا في الدستور، أو في أية وثيقة تجتمع الأمة على بنودها، وتقاضي الأطراف إذا ما أخلّوا بها.

ولـ (س، ع، ن) أن تختار ذلك في إطار العمل المشترك الذي يستجيب للمطالب الكونية والحضارية والتاريخية للأمّة. إذًا، التركيب يحصل بعصبيّة الأمّة التي يعضدها الإجماع، أو باتفاق مشترك، أو عبر النقاش العام الذي قد يكون بديلا حضاريّا للديمقراطية في عالم عربي منغلق على نفسه. هذه الديمقراطية -التي يرفضها العالم العربي في سلطته- يفترَض أن تكون التنميةُ المركَّبة بديلا عنها. بمعنى آخر، باتت التنمية المركَّبة مطلوبة، في العالم العربي، وذلك لأسباب مهمّة، منها: استفحال التخلف والاختزال، وهي، أيضا، مطلوبة طلبا حثيثا للخروج من دائرة العنف الديني والسياسي ورقعة اللامساواة نتيجة احتكار الشيء والتضييق على الدين والمعرفة. وللخروج من هذه المآزق الخوازق، يفترَض تجريب رؤى معرفية مختلفة عن السائد من النظريات والتصوّرات.

وقد يحصل، هذا الجديد المجرَّب، باستحضار وعي النخبة العارفة بإرادات وإمكانات الدين الكلي إذا ما حصلت لها نوايا حسنة للتعاون مع النخبة العالمة بهذا الدين في مقاصده ووسائله، والدفْع إلى إيجاد مؤسّسات اقتصادية وسياسية واجتماعية تُلزِم السلطة باحترام ممتلكات العامة المادية والمعنوية، وأيضًا واجب النزول عند مطالب النخبة العالمة لترسيخ بنية إنمائية أساسية مركّبة، تكون فيها المؤسّسات الأخرى لها قابلية للعدالة؛ عسى أن تتقلّص الفروقات بين (س، ع، ن) فيما يتعلّق بالمنافع الأولية؛ لأن الدين الكلي يهدف إلى تنظيم الشيء والمعرفة في الاتجاه الذي يحقّق الحياة الطيّبة لـ (س، ع، ن)؛ إلا إذا أبوا التركيب والعيش الكريم، وفضّلوا عليه الاختزال والعيش السقيم، لا سيما أن الثلاثية المعلومة الوجود (س، ع، ن) تشكّل موانع أمام التنمية المركّبة حيث يفصّل المؤلف القول في الفصل الثالث من كتاب “فرضية التنمية المركبة” .

فالإباء الذي هو صفة السلطة، والعناد الذي هو صفة النخبة العارفة، تكون العامة ضحيّة لهما، علاوة على أنهما يشكّلان عقبة كأداء أمام التركيب؛ وهو ما يجعل هذا الإنسان من الذين قال فيهم الخبير العليم: ﴿إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (المدثر: 16)، في الوقت الذي نلفي فيه أكثر من 1400 آية من أصل 6226 من آيات القرآن الكريم تشير إلى قضايا اقتصادية وإنمائية طابعها مادي، علاوة على الحلول الأخرى الاجتماعية والنفسية والتربوية الشمولية الموجودة في القرآن الكريم بجملته.

وقد يُفهم التركيب فهمًا إنسانيًّا وإنمائيًّا، وهو نفسه التركيب الإنساني والإنمائي، أو التنمية المركَّبة.

وهذا الفهم محكوم بفهومات أخْراةٍ مهمَّات تتوزَّع على الفهم الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي، أو الفهم الحضاري في عمومه فهمًا يحقّق روح الإجماع الإنساني والإنمائي.

أيضًا، في الدعوة إلى التنمية المركَّبة كشفٌ للحجاب السميك الذي يتوارى خلفه دعاة الاختزال الرافضون للتركيب. هذا الاختزال الذي يطرح على السطح مشكلة الاحتفاظ بالشيء الجاهز لدى فئة معيّنة في المجتمع على رأسها السلطة الحاكمة أو النخبة المالية. طبعًا السلطة والنخبة المالية يعترضان طريق التركيب؛ لأنه يدفع الناس إلى البحث عن السبل المفضية إلى الإفادة من الشيء بتوزيعه كان أم باستثماره. كما يعيد التركيب، إلى الأذهان، مسألة غائبة وحاضرة في الوقت نفسه، وهي المساواة الاقتصادية وما يصحبها من أشكال المنفعة وكيفية انتفاع السلطة والنخبة المالية من الشيء؛ أي بمعنى أن الناس في حالة التركيب ينشدون تحقيق أهدافهم ومقاصدهم وغاياتهم في إطار إنساني وإنمائي عادليْن يفضيان إلى تحقيق الحياة الطيّبة.

من وجهة أخرى، تقف فرضية كتاب “فرضية التنمية المركبة: استعادة الإنسان المتعدِّد الأبعاد”، أيضا، على أن السلطة والعامة والنخبة (س، ع، ن) التي تحرّرت من الاستعمار من أجل الحرية والمساواة والعدالة، لم تعد لها قابلية للحرية وللعدالة ما بعد الاستعمار. وأن ما ما تعانيه الأمة هو القابلية للاستعمار التي ارتفعت بها عقيرة مالك بن نبي الذي شآه ابن خلدون في التأسيس للقابلية للمغلوبية نظرًا إلى أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب؛ حيث غدا الإنسان (س، ع، ن) أسير (الشيء) الذي استحكم في السلطة فانقلبت مستعمِرة للحياة بتعبير هابرماس. كما أصاب الشيءُ العامةَ بالعجز والحرمان فتعطّلت قدراتها في ظل تضييق نطاق الحريات السياسية والاقتصادية. أما النخبة العارفة فعجزت عن أداء وظيفتها التاريخية والحضارية؛ حيث ألقى بها عجزها وخيبتها في حضن السلطة هاربة وليست راغبة.

وبما أن فرضية الكتاب قد وقفت على التنمية المركَّبة بوصفها وسيلة نبيلة تفضي إلى الحياة الطيّبة باعتبارها غاية جليلة، يكون من المنطق وجود بنية أساسية لها هي الدين الكلي الذي تدعو نصوصه السيادية -القرآن والسنّة- إلى الحياة الهنيئة.، ومن ثم فإن التنمية المركَّبة كفرضية، تحصل بثلاثة عناصر معلومة الوجود هي (س، ع، ن)؛ حيث يكون الإنسان المركَّب بنيانًا مرصوصًا. ويحاجج  الكتاب بأن التنمية المركَّبة التي يتشكّل من داخلها الإنسان المركَّب تعدّ حلاًّ واقعيًّا في مسائل تتعلّق بحماية الإنسان والبيئة والدين من شطط الأحادية الشيئية التي نسَلت التنمية المختزَلة فبسَلت في عالم المسلم. هذه الأحادية الشيئية أفرزت التنمية المختزَلة المضادة للتنمية المركَّبة، كما أفرزت الإنسان الأحادي البعد المضاد للإنسان المتعدّد الأبعاد. هذا التضاد نسَل هو الآخر سلسلة من التناقضات لا تنتهي أبدًا.

 من وجهة أخرى، هناك ثلاثة عناصر مجهولة التوزيع؛ الناس فيها شركاء. فإذا أُحسِن توزيعُها تيسّرت مسالك التنمية المركَّبة. هذه العناصر المجهولة التوزيع هي الشيء والدين والمعرفة (ش، د، م)، وإذا لم يتم توزيعُها توزيعًا عادلاً حصلت التنمية المختزَلة، ومن ثم المعيشة الضنك.

 ويقف هذا العمل أيضًا على أن الإنسان المتعدّد الأبعاد هو المركَّب إنسانيًّا على مستوى (س، ع، ن)، والعادل إنمائيًّا في محتوى (ش، د، م). بمعنى أن التنمية تتركَّب بالإنسان ويستوي سوقها بالعدالة. ومن ثم فإن المجتمع أو النظام الذي ليس له قابلية للتركيب الإنساني وليس له قابلية للعدالة؛ فإن التنمية المركَّبة ليست تعنيه، وهي بالنسبة إليه قد تعدّ ترفًا معرفيًّا أو خيالاً علميًّا أو مثالية ليس لها من الواقع إلا اسمها.

وعمومًا، يقدّم هذا كتاب فرضية التنمية المركبة: استعادة الإنسان المتعدِّد الأبعاد” خطاطة تمهيدية لعملية التركيب الإنساني والإنمائي في العالم العربي أو في عالم المسلم؛ عسى أن يحصل لهذه المجتمعات حرية الانتقال من دائرة الاختزال والتبعية إلى دائرة التركيب والاعتماد على الذات، والاستفادة الواعية من الآخر، واستثمار الموارد الشيئية والدينية والمعرفية لهذه الأمة من غير استبعاد وإقصاء لطرف من الأطراف أو تحييد مورد من الموارد؛ حيث استفاد هذا الكتاب من أطروحات أمارتيا صن الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، وذلك فيما يتعلق بنظرته إلى تحرير القدرة الاقتصادية لدى الأفراد لتحقيق الرفاهية في المجتمع وتقليص فجوة الحرمان؛ حيث يستحيل تصميم تنمية مركَّبة إلا باستحضار الحريات الأداتية الخمس: الحريات السياسية (= المسؤولة والوطنية طبعا)، والتسهيلات الاقتصادية، والفرص الاجتماعية، وضمانات الشفافية، والأمن الوقائي. كما يرى صن أن تحقيق لوازم الحرية رهن بتوافر مؤثِّرات أخرى؛ إذ يستلزم هذا النوع من التنمية القضاء على كل ما يؤدّي إلى غياب الحريات، مثل: الفقر، والظلم، وانعدام الفرص الاجتماعية، وأيضًا الحرمان الاجتماعي المنظّم، وإهمال المرافق والتسهيلات العامة، فضلا على عدم التسامح في حالات القمع؛ حيث نرى أن قيم الدين الكلي هي التي تضبط (التنمية حرية) إذا هي اشتطّت.

حيث في واقع التنمية المركّبة، يفترَض أن كل العقول تتعلّم، وكل الأيدي تعمل، وكل الأفواه تأكل، وكل الأبدان تحصل على نصيبها من الرعاية الصحية من غير تمييز، ويكون ذلك بتعميم الفرص الاجتماعية التي تمنع من أن يتحوّل حرمان قدرة لدى الأفراد –وربما المجتمع- إلى عقاب اجتماعي تمارسه السلطة ضد العامة، أو يدفع بالعامة إلى رفع عصا العصيان في وجه السلطة. إن فكرة العدالة لدى صن، إلى جانب نظرته إلى التنمية بوصفها حرية، عزّزت من إثراء خطاطة هذا الكتاب وإغنائها للقضاء على اللاومساواة في توزيع الشيء بين (س، ع، ن)؛ وهو ما ينجم عنه القضاء على الفقر تدريجيًّا، وتعميم العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن ثم تيسير تفعيل مقاصد الدين الكلي التي تشكّل البنية الأساسية لمؤسّسات التنمية المركَّبة التي تنشد الحياة الطيّبة.

في هذا الكتاب تفصيلٌ لكيفية تعامل السلطة بعدالة مع (الشيء)؛ هذا الشيء الذي هو جملة من المنافع الأولية والضرورية التي تشمل المال والثروة والدخل والموارد، وكل ما هو جاهز تحت الأرض من موارد طبيعية، وهي كلها كميات مادية، علاوة على الامتيازات والمناصب والمكافآت والتعليم النوعي والخدمات الصحية النوعية، وكل ما يوفّر لصاحبه احترام الذات، ويحقّق له المكانة الاجتماعية…. كما في هذا الكتاب تأصيلٌ إنمائيٌّ لمسألة الدين الكلي ومقاصده العليا في تنظيم هذا (الشيء) وحكامته من داخل مؤسسات الدولة التحتية والفوقية الحاكمة، ومن ثم توزيعه بما يرضي (س، ع، ن)؛ عسى أن يحقّق لهم الحياة الطيّبة.


د. زاليكا آدم – ماليزيا


مؤلف الكتاب الدكتور ناصر يوسف باحث جزائري في اقتصاد التنمية المقارن، مقيم بماليزيا؛ مهتم بدراسة العلاقة بين الدين والتنمية. ومن أهم مؤلفاته:

– محمد ناصر رئيس وزراء إندونيسيا: السيرة الفكرية والمسيرة السياسية، العبيكان، الرياض، 2020م

– مسالك التنمية المركَّبة: الأنموذج الياباني والمستقبل العربي؛ المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، 2019م

– جدلية القيم والتنمية في العالم العربي والإسلامي؛ الوراق للنشر والتوزيع، عمَّان، 2019م

– التجسيم الحضاري من منظور التنمية المركَّبة: دراسة نقدية تطبيقية لمشروع مالك بن نبي؛ مركز نماء للبحوث والدراسات، الرياض-بيروت، 2018م

– دينامية التجربة اليابانية في التنمية المركَّبة: دراسة مقارنة بالجزائر وماليزيا؛ مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010م