تتعرض التجربة التاريخية الإسلامية لانتقادات واسعة فيما يتعلق بالمرأة، تذهب تلك المزاعم أن الإسلام حجب المرأة، وقمعها، وفرض عليها القيود، وعطل حركتها، وفي مقابل ذلك هناك عدم إلمام من كثير من الباحثين بالتجارب التاريخية الإسلامية في العالم، إذ مازالت هناك مناطق جغرافية، وفترات تاريخية، مجهولة معرفيا، وغيابها يُسهل انتشار تلك الاتهامات الباطلة حول علاقة الإسلام بالمرأة.

ومن تلك الممالك الإسلامية التي لم تحظ بمعرفة كافية، “بوبال” أو بهوبال” Bhopal، الواقعة في قلب الهند، والتي أسسها الأفغاني دوست محمد خان” (المتوفى: 1728م)، عام 1723م، والتي اقتربت مساحتها من (18) ألف كيلو متر مربع، ثم أصبحت إمارة عام 1727م.

تشهد “بوبال” بعد تسعة عقود من تأسيسها، تطورا يستمر (107) عاما، من العام 1819 حتى العام 1926م، فقد  حكمتها  أربع سيدات توارثن الحكم، ونهضن به، واستطعن الحفاظ على هيبة السلطة وقوتها، وقمن بإدخال تحديثات إلى الإمارة، وارتقين بالتعليم والثقافة والطباعة، ومنهن من أدت فريضة الحج وكتبت عنها، وأسست إحداهن  أول مسجد في بريطانيا، فقد كان قرنا للنساء بامتياز في “بوبال”، لذا اهتم حفيدهن “شهريار محمد خان” Shaharyar M. Khan  الذي تولى منصب وزير خارجية باكستان، بإصدار كتاب عنهن، هو ” بيجوم بوبال: تاريخ ولاية بوبال الأميرية” The Begums of Bhopal: A History of the Princely State of Bhopal، والبيجوم أو البيغوم، هو لقب انتتشر في تلك الفترة ويعني السلطانة أو الأميرة.

البداية مع قدسية

ولدت “قدسية بيجوم”[1] Qudsia Begum عام 1801م، وكان والدها  “غوث محمد خان”، وتزوجت من حاكم “بوبال” “نزار محمد خان” عام 1817م، وأنجبت منه ابنتهما “سيكاندر”، ولم يمض عامان حتى قتل زوجها عام 1819، ولم تبلغ “قدسية” من العمر ثمانية عشر عاما، فعانت الترمل، وأمسكت بزمام الحكم في “بوبال” كوصية على طفلتها الرضيعة، ورغم اعتراضات بعض العلماء والأعيان على تولي إمراة السلطة، إلا أنها أبدت من الشجاعة والحزم، ما جعلها تنهض بأعباء الحكم، رغم أنها لم تحصل إلا على قدر قليل جدا من التعليم، واستطاعت أن تصد بعض الغارات العسكرية من الامارات المجاورة التي سعت للاعتداء على “بوبال” وضمها إليها، واستمرت ترعى ابنتها وتؤهلها للحكم طيلة ثمانية عشر عاما، حتى العام 1837 عندما تنازلت لابنتها عن السلطة، كما أنها قامت ببناء مسجد بوبال الشهير في عام 1837، وتوفيت عام 1881م.

سيكاندر..المرأة الحديدية

تولت “سيكاندر” Sikandar عرش “بوبال” عام 1837م، وهي في العشرين من عمرها، وكانت فتاة قوية البنية، جسورة، لا يعرف قلبها الخوف، تركب الخيل، وتخرج في رحلات لصيد النمور، وتجيد اطلاق السهام والرصاص، تولت الحكم مرتين، الأولى من عام 1837م حتى 1844م، ثم عادت بعد فترة من العزل لتتولى السلطة مرة ثانية، بموافقة البريطانيين عام 1860 حتى فاتها عام 1868م.

وقد عُينت “سيكاندر” وصية على ابنتها شاهجيهان” والتي كانت تبلغ من العمر ست سنوات عام 1844م، وساندت البريطانيين في ثورة الهند عام 1857، والمعروفة بـ”تمرد ميروت” Meerut rebellion ، والتي كانت من ثورات الهند الكبرى، بعدما ثار الهنود على احتكار شركة الهند الشرقية البريطانية، وحالت دون مشاركة إماراتها في ذلك التمرد، فردها الانجليز إلى العرش، واستمرت فيه ثماني سنوات، بددت فكرة أن تكون المرأة ضحية أو مضطهدة، فعندما ثار ضدها زوجها جهانجير محمد خان Jahangir وحاول اغتيالها، عام 1835م، تعلمت إطلاق الرصاص لتخيفه، ثم رمت به في السجن، كان قوتها طاغية وشخصيتها قوية، منحها الانجليز في عام 1861  وسام نجمة الهند Knight Grand Commander

وقد أدت “سيكاندر” فريضة الحج عام 1863، في ألف شخص من حاشيتها، ودونت رحلاتها للحج باللغة الاردية، ثم نُشرت ترجمة لها عام 1870م[2]،  ودونت ملاحظاتها على طبيعة الخدمات المقدمة للحجيج في ذلك الوقت، والتي كانت تعاني من إهمال، حتى أنها قامت بتنظيف الحرم المكي بنفسها.

كانت ذات شكيمة في الحكم، قسمت ولايتها إدرايا، لضبط الإيرادات، وعملت على تأسيس دولة عصرية، فأنشئت بعض المؤسسات الحديثة كالجمارك، وطورت القضاء، والخدمات البريدية، وأسست مدرسة “فيكتوريا” لتعليم البنات the Victoria School for girls، وتوفيت وعمرها (51) عاما.

شاهجيهان..أول مسجد في بريطانيا

شاهجيهان Shah Jahan: ولدت عام 1838م، وحصلت على قدر عال من التعليم، تولت الحكم عام 1844، وهي في السادسة من عمرها، وعينت أمها وصية عليها، ثم تركته عام 1860 مع عودة أمها “سيكاندرا” للحكم مدة ثماني سنوات، ثم عادت مرة أخرى للحكم عام 1868.

حكمت “شاهجيهان” ثلاث سنوات، قبل أن تتزوج من الفقيه والأديب والوزير “محمد صديق خان القنوجي”، في مايو 1871م، واستمر زواجهما قرابة العشرين عاما، وكان عالما موسوعيا، وساعدته في نشر كتبه؛ بعدما أنشأت مطبعة حديثة في بوبال، تولت نشر مؤلفاته، فعرفت الغالبية العظمى منها طريقها للنشر، والتي زادت على المائة كتاب، أشهرها “أبجد العلوم”، واعترافا بدورها ألف زوجها لها كتابا أسماه “تحفة شاهجيهان”، وكان يحظي باحترامها وتقديرها، إلا أن الاستعمار البريطاني نقم عليه، واتهمه بأنه يدعم المقاومة ضد البريطانيين من خلال كتبه ورسائله، وضغط البريطانيون على “شاهجيهان” لتنفصل عنه، فوقع الطلاق بينهما، لكنها حافظت على إكرامه وتقديره.

تمكنت “شاهجيهان” من إصلاح إدارة الدولة، ونظام الضرائب والجيش والشرطة والقضاء والسجون، وتمكنت من توسيع الرقعة الزراعية، وأنشأت شبكات الرّي والأشغال العامة على نطاق واسع، واختلفت شخصيتها عن والدتها، إذ مالت هي إلى الفنون والآداب، وحظيت شخصيتها باهتمام بريطاني نظرا لثقافتها وتحضرها، وكانت زياراتها تحظى باهتمام من الدولة البريطانية وكذلك من المجتمع، بلغت فترة حكمها (49) عاما، وفي العام 1889 أنشأت أول مسجد في بريطانيا مولته من مالها الخاص، وسمي على اسمها، كما تبرعت بمال سخي لكلية محمد أنجلو الشرقية في عليكرة، وهي الكلية التي تحوّلت فيما بعد إلى جامعة عليكرة الإسلامية، كذلك ألفت كتابا عن تربية الأطفال، وتوفيت عام 1901، وعمرها (62) عاما، وتولت الحكم من بعدها ابنتها سلطان جيهان.

سلطان جيهان…نهاية الأسطورة

سلطان جيهان Sultan Jahan: ولدت عام 1858م، وتولت الحكم بعدما جاوزت الاربعين من عمرها عام 1901م بعد وفاة والدتها، وكان تجيد الانجليزية بطلاقة، امتلكت رؤية إصلاحية، فأنشأت الكثير من المؤسسات التعليمية، وفي العام 1918م فرضت التعليم الإلزامي المجاني، وحظى تعليم الإناث باهتمام كبير في عهدها، وأصبحت مستشارة لجامعة عليكرة، وحجت عام 1904م، وقامت باصلاح نظام السجون، وسعت لتعليم المساجين حرف يتكسبون منها بعد خروجهم من السجن، فغيرت مفهوم العقوبة، وحضرت مراسم تتويج  ملك بريطانيا “جورج الخامس” وهي ترتدي حجابها السابغ وتغطي وجهها، وفي عام 1914 ، أصبحت رئيسًا لجمعية السيدات المسلمات في عموم الهند، وفي العام 1926م، تنازلت عن السلطة لابنها “حميد خان”، وتوفيت في 12 مايو 1930،  لتنتهي بذلك أسطورة نساء بوبال.


[1] عرفت –أيضا-باسم “جوهر بيجوم” Gohar Begum، وهذه الشخصية تختلف عن شخصية تحمل نفس الاسم وهو “قدسية بيجوم” التي كانت زوجة الإمبراطور المغولي محمد شاه، وأم الإمبراطور أحمد شاه بهادور، وتوفيت هذه الشخصية عام 1765م، وكان لها هي الأخرى تأثير في الهند وسياستها.

[2] عنوان رحلتها للحج: “”حج الأميرة: نواب اسكندر بيجوم رحلة إلى مكة” “A Princess’s Pilgrimage: Nawab Sikandar Begum’s A Pilgrimage to Mecca