لا يختلف اثنان على قيمة العدل، لكن الواقع ينحى منحى آخر؛ إذ الظلم منتشر، والإنسان مستذل ممن هو أقوى منه.

ونشر العدل ومنع الظلم لا يتم من تلقاء نفسه، بل يحتاج إلى قوة تفرضه وتبسطه، وخلو العدل من القوة يجعله ضعيفًا مهضومًا، لا يملك نصرة من يلجأ إليه ولا حمايته ولا رد حقه، ولا منع الظلم المستقوي على الضعفاء.

وقد جاء الأمر الصريح لولاة أمور المسلمين برد الحقوق والعدل والإنصاف بين الرعية فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58].

وهذه موعظة حسنة لمن سمعها وعمل بها، وإلا فالعواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، وخيمة على الأفراد والمجتمعات والدول، فساد في الدنيا وعذاب في الآخرة.

ورغم أن داود -عليه السلام- كان ملكًا نبيًّا، إلا أن هيبة الملك والنبوة لم تمنعا الخصمين من تذكيره بطلب العدل وتحريه، وترك الجور في أثناء الحكومة بينهما.

وقد سمع داود -عليه السلام- ذلك منهما فلم يتبرم ولم يغضب، بل اعتبرها تذكيرًا وتنبيهًا له.

قال -تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ [ص: 21-22].

وانحراف النفس عن الحق واتباع الهوى وارد في الطبيعة الإنسانية، لكن دوام التذكير والتنبيه يذهب الغفلة ويجلب اليقظة.

وفي نفس سياق الآيات السابقة جاء النداء من الله -تعالى- لعبده داود بالتذكير بالعدل وترك الهوى، كأنه تنبيه أو تقويم فقال: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26].

قال الألوسي: “إن ذنبه -عليه السلام- المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مساءلته، فكأنه قيل: ولا تتبع الهوى في الحكم كما اتبعته أولاً.

وفيه أن اتباع الهوى وحكمه بغير ما شرع الله -تعالى- له غير مناسب لمقامه، لا سيما وقد أخبر الله -تعالى- قبل الإخبار بمسألة المتحاكمين أنه آتاه الحكم وفصل الخطاب، فليس هذا إلا إرشادًا لما يقتضيه منصب الخلافة، وتنبيهًا لمن هو دونه -عليه السلام”([1]).

وإشاعة العدل ورد الحقوق تكون على الناس سواء؛ إذ لا يختص بفصيل أو طائفة أو أناس دون غيرهم، قال -تعالى- لنبيه –صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105]، وقد قال الشيخ الشعراوي: “وهذا يوضح لنا أن حكومة الدين الإسلامي وعلى رأسها الحاكم الأول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما جاء لا ليحكم بين المؤمنين به فقط، بل ليحكم بين الناس، ومن شرط الحكم بين الناس القيام بالعدل فيما يختصمون فيه، فلا يقولن واحد: هذا مسلم، وذاك كافر، فإذا كان الحق مع الكافر فلا بد أن تعطيه له، وإذا كان الحق مع المسلم فيجب أن تعطيه له؛ لأنك لا تحكم بين المؤمنين فقط، ولكنك تحكم بين الناس”([2]).

وقال عمر: “ويل لديان أهل الأرض من ديان أهل السماء يوم يلقونه إلا من أمر العدل وقضى بالحق، ولم يقض لهوى ولا قرابة، ولا لرغبة ولا لرهبة، وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه”([3]).

وقد جعل الطاهر بن عاشور إظهار الحقوق مقصدًا من مقاصد الشريعة فقال: “مقصد الشريعة من نظام هيئة القضاء كلّها على الجملة أن يشتمل على ما فيه إعانةٌ على إظهار الحقوق وقمع الباطل الظاهر والخفي”([4]).

ويقول الدكتور محمد سليم العوا: “لا يختلف اثنان في أن صلاح المجتمع والأمة من أعظم المقاصد التي رعاها الإسلام وحثَّ عليها القرآن الكريم.

ولا ريب في إتيان الشريعة بالنهي عن الفساد كله.

والعدل هو الذي يحقق منع الفساد، فهو مقصود لذاته ومقصود لغيره.

فأما أنه مقصود لذاته فبيانه أن القرآن والسُّنة متظاهران على الأمر بإيتاء كل ذي حق حقه، وعلى تحريم العدوان، ورده إن وقع، بإعادة الحق إلى صاحبه أو بتعويضه عما لحقه من ضرر.

وأما أنه مقصود لغيره فبيانه أن صلاح العالم لا يكون إلا به، وما يقتضيه المقصود الشرعي بحيث لا يتحقق إلا به يكون مقصودًا كذلك وإلا تناقضت أدلة الشرع وتهاترت، وهذا عبث ينزه الشارع –سبحانه وتعالى– عنه في قول المسلمين كافة”([5]).

وقد لفت فضيلته النظر إلى أن المتتبع لمقصد العدل في القرآن الكريم عليه ألا يقف عند ألفاظ العدل وحدها؛ إذ إن مفهوم العدل جاء عبر معان متعددة تدور كلها في فلك العدل فقال: “وينبغي التنبه إلى أن الاحتفاء بمفهوم العدل في القرآن الكريم لا يتبين من تتبع مواضع ورود الألفاظ الدالة عليه وحدها؛ ففي القرآن الكريم آيات كثيرة دالة على وجوب العدل دون أن تكون متضمنة كلمة (العدل) أو (القسط)، أي إن هذه الآيات تدل على مقصد العدل، وكونه من مقاصد القرآن الكريم، بطريق الإشارة أو الإيماء دون طريق العبارة الصريحة اللفظ. مما يقتضي تأمل القرآن الكريم كله، فإن كثيرًا من آياته التي لا تتضمن تلك الألفاظ تدل بمؤداها على كون العدل مقصدًا قرآنيًّا أساسيًّا.

تأمل، إن شئت، قول الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:143]. والوسط: السواء والعدل والنصف”([6]).

فهذا المقصد غائب أو مغيب عن هذه الأمة، ولو أعيد له اعتباره أو جُعل نصب الأعين لتبدلت الأحوال، ولأصبحت الأمة في مكان غير الذي هي فيه الآن.


([1]) روح المعاني، للألوسي، 23/187.

([2]) الخواطر، للشعراوي، 5/2605.

([3]) مصنف ابن أبي شيبة، 4/540.

([4]) مقاصد الشريعة الإسلامية، للطاهر بن عاشور، ص340.

([5]) مقاصد القرآن الكريم (2): مجموعة بحوث، 2016، مؤسسة الفرقان بالتراث الإسلامي، لندن.

([6]) السابق.