4- التحرر الدائم:

كرّم الله -تعالى- الإنسان إذ خلقه في أحسن تقويم، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض منَّةً منه وفضلاً. ومتَّعه بالعقل والإدارة الحرة،وحمَّله مسؤولية اختياراته؛ ليظل حراً كريماً منطلقاً،لا يأسره إلا قِيَمه ومبادئه؛ لكن الإنسان حتى يسهَّل عمله، ويعقل الوجود من حوله يقوم بإنتاج عدد كبير من العادات على المستوى الفكري والنفسي والحركي… ولا يمر وقت طويل حتى يشعر أنه صار أسيراً لتلك العادات، فطرق التفكير تتكلَّس مع الأيام،وتصبح غير ملائمة، فتتحول من أدوات لتسهيل المحاكمة العقلية والتحليل والتركيب… إلى أطواق وسلاسل، تحدّ من انطلاقة الفكر،وتحجَّم فاعليته، بل قد تظلله، وتجعله يطرح طروحاً شكلية.وقل مثل ذلك في العادات النفسية والحركية.

حركة الحياة اليومية، ومصالح الإنسان، والضغوط التي يواجهها،كل أولئك قادر على استبعاد الإنسان وإذلاله ومسخه، وتحويله إلى شيء أو جزء من آلة، أو تابع مقلد…

يحتاج المسلم من أجل الاحتفاظ بحريته وحيويّته إلى أن يحمل بين جوانبه روح (الثورة) أو روح التحرر الدائم، والتأبي على القولبة، ورفض البرمجة الثقافية المحلية الصماء، وضغوط البيئة المحطَّمة التي تحد من الطموحات، وتقتل المواهب. إنه لكي يفعل ذلك بحاجة إلى تلمُّس الآفاق غير المرئية، وتحسُّس ما يمكن أن يكون، والسعي الدائب إلى ما هو أفضل، وعليه دائماً أن يبحث عن البدائل لما هو فيه.

وما لم يفعل ذلك- وهذا ما عليه أكثر الناس- فإن من السهل أن يجد نفسه مكبلاً بالأوهام، والعادات البالية، والقيود التي صنعها لنفسه بنفسه، كما هو شأن مدمني المخدرات ومدمني التقليد والكسل والإسراف وقول الزور… إن التحرر الدائم ينبع من اعتقادنا أنه لا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه، ومن اعتقادنا بهشاشة (البُنية العميقة) للحرية والكرامة،مما يجعلها بحاجة دائمة إلى الحذر والرعاية.

5 – التفوق على الذات:

بإمكان أكثر الناس عجزاً، وأقلهم حيلة أن يجد من هو أضعف منه؛ ليتغلب عليه ويقهره، ومن السهل على المرء أن يكشف بعض النقاط التي تمنحه نوعاً من التفوق والتميز… لكن يظل المهم دائماً هو(التفوق على الذات) والشعور بالتحسن الدائم والارتقاء المطَّرِد. إن التفوق على الذات يعني أن يوم المتفوق خير من أمسه،وأن غده خير من يومه.

وهذا غير ممكن على نحو مطلق، لكن يمكن أن يلمسه الإنسان إذا أجرى تقويماً سنوياً لأحواله ومكتسباته. ولا شيء يحول دون التفوق المستمر، كالنرجسية والإعجاب بالنفس، ونزع إنجازاتنا من طبيعتها الزمنية، لنجعلها عملاً نهائياً، فنقضي بذلك عنها بُعدها الإنساني الحي والمرحلي، وندخلها في نفق الجمود ثم الاضمحلال.

إن قوله الله-جلَّ وعلا- {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف:76[

حثٌّ خفي لنا على دوام الاستزادة من العلم،والنظر إلى ما هو أسمى؛ وإشعارٌ بأننا لن نصل إلى النهاية في الترقي، وأن الأفق أمامنا سيبقى ممتداً.

6- الشعور بالتأنق:

حين يقصر الإنسان في أداء واجب، فإنه يشعر بالتقصير،ويحدث في داخله نوع من الصراع. وحين يؤدي واجباً، فإنه يشعر بنوع من الرضا والإنجاز. وحين يقوم بعمل زائد عن الحاجة أو عن الواجب، فإنه يشعر ب(التأنق). الشعور بالتأنق هو نوع من الشعور بالرَّفَه والتجاوز لحد الضرورة. إن المسلم حين يبدأ بإلقاء السلام تكون مشاعره مختلفة(1) [(1) كان عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-ينزل الأسواق بهدف إلقاء السلام على الناس.] عن مشاعره حين يرد السلام،حيث الأول سنّة، والثاني واجب.

كذلك مشاعره عند أداءه فريضة الصلاة.تختلف عن مشاعره حين يتنفَّل،كما تختلف أحاسيس الناس حين يأكلون ما يسد الرمق عن أحاسيسهم عندما يأكلون الفاكهة أو الحلوى…

القيام بما ليس مفروضاً،يعطي الإنسان إحساساً بالتفوق والاقتراب من الكمال، وهو إحساس ضروري لتعزيز الثقة بالنفس، وتحصيل نوع من السَّبْق للأقران والنظراء.المجتمعات التي تُنتج أكثر مما تَستهلِك،تشعر بالتأنق،كما يشعر به الأمم التي تجد لديها فضلة من طاقة لحل مشكلات الأمم الأخرى.

الشعور بالتأنق كثيراً ما يرتقي بالإنسان-على نحو ما-إلى درجة الريادة،حيث يضحي قدوة لغيره.

الفائض الاجتماعي مظهر من مظاهر التأنق،وهو في الوقت نفسه حاصل الأعمال التطوعيّة الخيرة التي يقوم بها أبناء المجتمع؛ وعلى مقدار ذلك الفائض تكون خيريّة ذلك المجتمع.في الظروف الصعبة تصبح الحاجة ماسَّة إلى وجود أعداد كبيرة من الرجال الأخيار الذين يتجاوزون مرحلة التفكير بالحقوق والواجبات،وينغمسون في أعمال الإحسان والارتقاء، حيث تغمرهم روح المجانية والعطاء غير المشروط.

هذه السمة من أهم سمات (المسلم النموذجي) في عصرنا هذا، فلنحاول أن ننمي الشعور بالتأنق من خلال تنمية الأعمال التطوّعية،ومن خلال إرساء تقاليد ثابتة للإنجاز العالي.

7- وضوح الهدف :

أعتقد أن أكبر أزمة تعاني منها الحضارة الحديثة والإنسان المعاصر، هي تحديد الغاية النهائية لأنشطة البشر، وهي القضية الكبرى التي ينبغي أن تخدمها كل القضايا الأخرى، القضية التي تستحق التضحية بكل شيء إذا اقتضى الأمر. إن الامتداد يقتل الاتجاه، كما يقتل المكانُ الزمان، وأعتقد أنه قد تطاول الأمد على كثير من الناس، فنسوا هدف وجودهم،أو عاملوه معاملة الناسي أو المهمل.

إن في الغرب اليوم تساؤلات كثيرة حول الهدف الأخير لكل هذه الجهود الضخمة، ولكل هذا العناء الإنساني الهائل. ونظراً لإلغاء الدين-عملياً-وإبعاده عن المساهمة في صياغة فلسفة الوجود، فإن كل الأسئلة تظل حائرة،دون أن تجد أية إجابة شافية.

المسلم في الأصل، لا يعاني من مشكلة تحديد الوجهة أو الهدف النهائي، لكن من الواضح أن زحمة المشاغل اليومية، والانحراف الذي أصاب (التثقيف العام) قد تسببا في إحداث غفلة كبيرة لدى كثير من الناس. إن إدارك الهدف بطريقة سوقية أو مبتذلة، يجعل حضوره ضعيفاً كما يجعل قدرته على إثارة الحماسة للعمل من أجله محدودة.

كثير من الإحساس بالتفاهة والفراغ،وكثير مما يعرف بأنه مشكلات عاطفية أو عقلية، ماهو في الحقيقة سوى أعراض لفقد الناس الإحساس بهدفهم الأسمى، ورسالتهم في الحياة.

8- نحو الهدف:

قضية وجود أهداف واضحة في حياة المسلم المعاصر، من القضايا الكبرى التي لا تحتمل التأخير. وإذا كان الهدف الأكبر هو الفوز برضوان الله -تعالى- والجنة، فإن ذلك الهدف لا يتم بلوغه إلا من خلال القيام بالأوامر واجتناب المناهي، وما يستتبعه ذلك من أخلاق وآداب وأوضاع… والقيام بذلك والتحلي به له وسائله وأساليبه وآلياته، وهكذا فكل هدف صغير،هو وسيلة لهدف أكبر منه، وكل هدف كبير،هو غاية لهدف أصغرمنه.ووضوح الهدف الأكبر، يعني أن كل الأهداف الصغرى، يجب أن تسهم- على نحو ما- في الاقتراب منه والوصول إليه؛ وهذا وحده هو الذي يضفي على أهدافنا الصغرى المشروعية، ويضفي على مناشطنا المختلفة المنطقية والانسجام. ولعلنا نُبرز هنا في سمات الهدف وكيفية تحديده وقياسه النقاط التالية:

  • إن مجرد تحديد (الهدف)على نحو جيد، يستنفر الطاقات الكامنة، ويوجه إرادة المرء وأنشطته؛ ولذا فإن الأشخاص المتفوقين، والناجحين نجاحاً متميزاً، هم-غالباً- أصحاب أهداف محددة. وقد قام أحد الباحثين في إحدى الجامعات الأمريكية بإجراء استفتاء لخريجي الجامعة عام 1953، وكان السؤال الذي وجهه إليهم، هو:هل لك أهداف محددة ومكتوبة؟ وكانت النتيجة (3%) فقط من هؤلاء الخريجين، وضعوا لهم أهدافاً محددة ومكتوبة عما يريدون القيام به في حياتهم. وبعد عشرين سنة من ذلك التاريخ ،أي في عام 1973 رجع إليهم صاحب البحث؛ ليستطلع أحوالهم، فوجد أم هؤلاء ال(3%)حققوا نجاحاً في وظائفهم وأعمالهم أكثر مما حققه ال (97%)الآخرون مجتمعين!.
  • من السهل على الواحد منا أن يخطط المشاريع،ويرسم الأهداف بحماس وانفعال، لكن عند المجيء للتنفيذ يتلاشى الكثير من تلك الأهداف والخطط، ويشعر المرء بأنه كان في وهم، أو يشعر بالعجز والاكتئاب.ولذا فإنه لابد من أن تكون الأهداف ممكنة التحقيق وقريبة المنال، بمعنى أن تكون الفجوة التي بينها وبين إمكانات من يرسمها فجوة،يمكن قطعها، وإلا فإن تلك الفجوة، يمكن أن تكون مصدر  شقاء. ومن وجه آخر فإن الصعاب التي تعترض الواحد منا في حياته، قد تصرفه عن أهدافه، وهذا في الحقيقة، يشكل أزمة كبيرة لكثير من الناس. والواجب أن نتكيف مع الظروف الصعبة- في حدود معينة- وعوضاً أن نتخلى عن أهدافنا نجدد عزيمتنا. وإذا اكتشفنا أن أهدافنا،لا تتلاءم مع ما لدينا من قدرات، فيمكن أن نجري نوعاً من التعديل عليها.

ج- تحقيق الهدف يحتاج إلى دفق جيد من النشاط والعمل،وهذا لن يتم ما لم نستطيع ضبط الاتجاهات والميول والاهتمامات،وتوجيهها نحو الأعمال التي تخدم الهدف.ذلك متوقف على توفر(الإرادة).

وفي هذا السياق فإن من المهم أن نعلم أن هناك فرقاً بين المحبة والإرادة، فكل التجار يحبون الربح،كما يحب جميع الطلاب النجاح، لكن الذين يريدون ذلك هم وحدهم الذين يحققونه.إن الفعل الإرادي،هو تعبير عن الوعي الناضج، والإرادة الحرة في تحديد الهدف،واتخاذ القرار،وتحديد المسار الموصل إليه؛ وبذلك يتم تيسير كل القوى المتوفرة في اتجاه تحقيق الهدف.

ونحن نخطئ حين نقول: إننا لا نستطيع أن نفعل كذا وكذا،والصواب أن نقول: إننا لا نريد أن نفعل، لأن الإرادة الحقيقية، ليست متوفرة، فنغطي على غيابها بادعاء انعدام القدرة. وقد قال الله-جل وعلا- في المنافقين {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} [التوبة:46]، فانعدام أي قدر من التأهب للجهاد دليل على أن إرادة الخروج له معدومة أصلاً.

د- وضوح الهدف شيء جوهري.ووضوحه يعني تحديده على نحو دقيق، وذلك بغية قياس التقدم نحوه فيما بعد. ويمكن القول:إن كل هدف،لا يمكن قياسه،ليس بهدف؛ولذا فإن قول كثير من الناس:نحن بحاجة إلى إخلاص وصدق وتقوى حتى

نتقدم- لم يثمر أي ثمرة،حيث لا نملك المعايير التي نتمكن من خلالها من قياس حجم التقدم نحوها.

ويمكن أن نحيط الهدف الذي نريد إنجازه بالأسئلة التالية :

– ما الذي يجب تحقيقه؟

 -لماذا يجب أن يتحقق؟

– متى يجب تحقيقه،وما لمدة التي يستغرقها؟

– من الذي سيقوم بتحقيقه؟

– أين يجب أن يتم ذلك؟

– هل أحتاج إلى مساعدة من أحد في تحقيقه؟وإذا كانت المساعدة مطلوبة،فمَنْ الذي سيفعل ذلك؟

– ما الأدوات التي يحتاجها ذلك؟

يجب كتابة الأجوبة عن هذه الأسئلة والرجوع إليها عند الحاجة.

مما نزيد في توضيح (الهدف) أن نقسمه إلى أقسام عدة، فإذا كان الهدف أن أُصبح أستاذاً جامعياً بعد خمس سنوات، فإن من المرغوب فيه أن أُحدد وقتاً، وليكن سنتين للحصول على (الماجستير) وثلاث سنوات للحصول على(الدكتوراه).

وحتى يتحقق ذلك، فقد يكون عليَّ أن أستهدف إنجاز ست ساعات من العمل في القراءة والكتابة يومياً وهكذا… إن هذا التقسيم سيسهل إدراك الهدف وتحديده، كما يسهل إنجازه أيضاً؛ فالحقيقة أنه ليس هناك عمل صعب إذا قسمته إلى أجزاء صغيرة.

هـ- يجب على صاحب الهدف أن يؤمن به إيماناً،لا يشوبه أي شك، وأن يكون على ثقة تامة بالوصول إليه دون أدنى ريب، بل عليه أن يتصرف وكأنه حاصل على ما يريد، وأن يرسخ ذلك في أحاسيسه كلها حتى يصبح (الهدف) جزءاً من كيانه المعنوي. وحين يتغلغل الهدف في (اللاشعور) من صاحبه، فإنه يقوم بتوجيه طاقاته النفسية والجسمية نحو تحقيقه.

وقد كان النبي يُبشّر أصحابه بظهور الإسلام في أصقاع الأرض في ظروف بالغة القسوة. وحين ساومته قريش، وعرضت عليه الجاه والمال والنساء ،قال لعمه أبي طالب قولته المشهورة: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله،أو أهلك دونه)!. إن هذا درس بليغ جداً في الثقة بالوصول الهدف،وفي الإصرار عليه، مهما كانت المغريات الصارفة عنه.