إسهامات الدكتور نور الدين عتر رحمه الله تعالى أحد أعلام دمشق في العلوم الإسلامية، وفي علوم الحديث على وجه الخصوص، نفيسة كما وكيفا،  وقد نال الدكتور قصب السبق في علوم الحديث النبوي الشريف روايةً ودرايةً، في مجالات التدريس والتحقيق والتأليف، وتفنن في مراحلها ومراتبها، ويبقى جهده العلمي والتنظيري في كتابه “منهج النقد في علوم الحديث” خير شاهد على تفوقه والتميز الاستثنائي في التأليف، فإن كتابه هذا يعد كتاب التأصيل في الرد على الشبهات التي توجه لعلم السنة .

أبرز الدكتور نور الدين فوائد فريدة في مجال النقد في علوم الحديث، يمكن أن ينهل منها طلاب العلم الشرعي والباحثون، وأثار أسئلة أمام المغرضين المشككين في السنة وعلومها، وفي منهج المحدثين في النقد، ودافع بثبات غير متناه عن حياض السنة، بأسلوب علمي أكاديمي ممنهج، وأجال نظره في كتب التراث يستقي منها مقالات علماء السلف في الحديث، ويصوغ علوم الحديث في شكل نظرية متكاملة بعد أن كان هذا العلم يُدرس على أبواب متفرقة، ثم يعرضها على العقول الصحيحة التي ترغب في الخضوع للحق والحجج.

كشف عن هذه النية في مقدمة الكتاب وهذا من حسن التأليف الذي كان يتميز به، يقول الدكتور رحمه الله تعالى: “هذا كتاب في علوم الحديث، نرجو أن يكون لبنة متواضعة في صرح هذا العلم العظيم .. يبرز بجلاء وفاء قواعد هذا العلم بالغرض العظيم الذي وضع من أجله، ألا وهو الذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمييز صحيحه من منحوله، ومقبوله من مدخوله.

إنه كتاب ينقل مسائل هذا العلم من التفرق إلى التكامل، ويأخذ بالقارئ من الجزئيات إلى النظرية الكاملة المتناسقة، التي تتآلف فيها أنواع علوم الحديث كافة، لتبدو في مجموعها منطلقة بتسديد وإحكام نحو الغاية المنشودة.

إنه بهذا يواجه مناهج البحث العصرية العربية والأجنبية التي تزهو بالمنهجية وصياغة النظريات، ويبين -بما لا يدع مجالا للشك- عمق نظرة المحدثين، وشمولها جوانب البحث النقدي في الأحاديث.”[1]

أشاد بهذا الجهد العالم الموسوعي الدكتور الشيخ محمد أبو شهبة، صاحب “كتاب دفاع عن السنة”، فقال: “إن كتاب منهج النقد في علوم الحديث كتاب قيم جليل تميز على المؤلفات في هذا الفن بمزايا كثيرة تجعله في مقدمة المؤلفات الحديثة في هذا الفن الجليل .. منها: حسن التقسيم والتفصيل (..) وسعة الاطلاع على كتب هذا الفن التي تكون في مجموعها مكتبة مستقلة بذاتها (..) والعناية بالرد على بعض الآراء الاستشراقية التي لم تقم على أساس علمي سليم..” وغير ذلك من المزايا التي جاء في مطلع الكتاب في طبعته الثانية.

ويحرر هذا المقال بعض المزايا التي استلهمها الدكتور محمد أبو شهبة من الكتاب في ثلاثة محاور رئيسة، ويمثل قراءة في هذا الكتاب العلمي الفذ، وإشادة بجهود الدكتور نور الدين رحمه الله تعالى.

المحور الأول  – حسن التقسيم والتفصيل

ذكر المؤلف منهاجه في تبويب هذا الكتاب في المقدمة أنه  اعتمد على “السبر والاختبار” لكل احتمالات القوة أو الضعف التي قد تطرأ على السند أو المتن، أو قد تطرأ عليهما معا، ونظر فيما يتبع كل واحد منها من أنواع الحديث. ثم قسم الأنواع على أبواب رئيسية يختص كل منها بركن من أركان البحث في الحديث، فيقف المطلع على الكتاب على جميع مقومات الحديث سواء من جانب السند والمتن جمعيها، “وبذلك يصدر الحكم على الحديث معتمدا على أصول نقدية دقيقة، لوحظ فيها المعنى مع المبنى، والمتن مع السند، مع الاستناد في ذلك إلى مقتضيات العقل والحس”.

اشتمل هذا التقسيم على أبواب لها علاقة بالتعريف العام بمصطلح الحديث، من حيث أدواره التاريخية والتصنيف فيه، ثم من حيث علوم رواة الحديث، وعلوم رواية الحديث وآدابها، وانواع الحديث من حيث القبول أو الرد، ثم نظر في علوم المتن والسند، وآخر الأبواب في العلوم التي يشترك فيها المتن والسند .

المحور الثاني – سعة الاطلاع على الكتب المصنفة في هذا الفن

 فإن الدكتور نور الدين خلال مسيرته العلمية في هذا الكتاب، شدد على شرط الاعتماد على المصنفات الحديثية الخاصة، وذلك في كل نوع من علوم الحديث، وبين الترتيب بين هذه الكتب حسب الأسبقية في تاريخ التدوين، مع ملاحظته القيمة إلى أن كثيرا من هذه المصنفات مخطوط او في حكم المخطوط لندرته[2]. وهذه إشارة إلى جديته في البحث، والأصالة في التحرير، والاتصاف بالموضوعية، وحاول الابتعاد عن النقول بواسطة حتى مع تعسر الوصول إلى الكتب الأم.

نماذج في علوم رجال الحديث

ومن النماذج التي تدل على ما سبق بيانه من الجدية والاختبار والموضوعية مع سعة الاطلاع، ما جاءء في ثنايا الكتاب، في البيان عن علوم رواة الحديث.

ويقصد بعلوم رجال الحديث المعارف التي تبحث في رجال سند الحديث، والتأكد من أسمائهم وكناهم وألقابهم دفعا للاختلاف والتشابه بين الأسماء، ومن ثم الحكم عليهم، ويظهر أثر هذا الحكم على الحديث من حيث تحديد درجات الأحاديث حسب قوة الراوي أو ضعفه.

قسم هذا النوع من العلم بعد التتبع إلى نوعين، يقول: “قد تتبعنا هذه الأنواع كلها بالنظرة الفاحصة، وسبرناها من حيث الغرض الذي تؤديه، فوجدناها تنقسم إلى قسمين، نبحث كل واحد منهما في فصل مستقل..

النوع الأول: في العلوم المعرفة بحال الراوي

الثاني: في علوم الرواة المبينة لشخص الراوي”[3].

النموذج الأول-  الألقاب التي أطلقت على طبقات المحدثين

عرض ألقاب المحدثين أو الرواة حسب الكثرة أو القلة في الرواية المعروفة لدي علماء هذا الفن، وتدخل في هذه الألقاب ما يأتي:

  1. المسند: وهو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد الرواية.
  2. المحدث: وهو من يقصد للإفادة في الحديث ورواته حتى اشتهر بذلك، وعرف خطه لكثرة ما يكتب من الأجوبة على أسئلة الناس.
  3. الحافظ: أرفع من المحدث وهو كما يؤخذ من كلامهم: من توسع في الحديث وفنونه بحيث يكون ما يعرفه من الأحاديث وعللها أكثر مما لا يعرفه.

ثم جاء تعليق الدكتور نور الدين عتر وهو يعرض الخلاف الذي جرى بين المصنفات الحديثية في حقيقة الحافظ، ويختبره ثم ينقده قال: وقد تفاوتت عبارات العلماء في تعريف الحافظ حتى بلغوا أحيانا ما عده بعض الباحثين تغاليا في الحفاظ. كقول الزهري: “لا يولد الحافظ إلا كل أربعين سنة”، وقولهم في الإمام أحمد بن حنبل “كان يحفظ ألف ألف حديث.

اختار أن هذه المبالغة صدرت باعتبار المرتبة العليا في الحفظ، وبناء على ذلك وجدت ألقاب جديدة لكبار الحفاظ للدلالة على التفوق والتميز في استحضار الحديث، من ذلك الألقاب: الحجة – الحاكم – أمير المؤمنين في الحديث.

النموذج الثاني – شروط صحة الحديث

أدخل هذا الموضوع ضمن مباحث علوم الرواة، واستخدم عنوان “صفة من تقبل روايته ومن ترد”.

ذكر أن الصفات التي اشترطها العلماء في هذا الفن في الرواي الذي يقبل أو يرد حديثه، فاختلفت فيها عبارات المحدثين، لكنه اختار أن الحاصل من هذه الصفات يرجع إلى أمرين: العدالة والضبط.

  1. أما العدالة فاشترط لتوفرها في الراوي الإسلام – والبلوع لأنه مناط المسؤولية  – والعقل لحصول الصدق – التقوى وهو اجتناب الكبائر وترك الاصرار على الصغائر – والاتصاف بالمروءة وترك ما يخل بها.
  2.  الضبط، وبين حدوده “بأن يكون الراوي: متيقظا غير منفعل، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني”[4].

وإذا اجتمع هذان الشرطان في الرواي فإنه يعتبر ثقة يقبل حديثه، وبناء على ذلك ترفض أحاديث من حاله تخالف هذين الشرطين، وفرّع لهذا البيان حسب سبب الاختلال، إن كان الاختلال من جهة العدالة أو الضبط، ووضح ذلك ببعض صوره:

بعض صور من رد حديثه بسبب الاختلال في العدالة

  1. لا يقبل حديث الراوي الكافر، بل يجب أن يكون وقت روايته للحديث مسلما، فإن الكفر أعظم موجبات العداء للدين وأهله، فكيف تقبل رواية الكافر مهما كان عليه من الصدق؟ !
  2.  لا يقبل خبر الفاسق بارتكاب المعاصي والخروج عن طاعة الله تعالى، وإن لم يظهر عليه الكذب، وكذلك من كان فسقه بسبب كذبه في حديث الناس وإن توقى الكذب في الحديث النبوي.
  3. ترفض رواية التائب من الكذب في الحديث
  4. خبر المبتدع وهو من فسق لمخالفته عقيدة السنة، واختار نوع المبتدع الذي يرد حديثه، أن يكون الداعية إلى البدع.

وقد فصل في هذا الموضوع وهو يسيح بين كتب الأئمة والمنظرين في مجال علوم الحديث، بما يؤكد على سعة علم المؤلف، وطول باعه في هذا المجال.

بعض صور من رد حديثه بسبب الاختلال في الضبط:

  1. لا يقبل حديث من عرف بقبول التلقين في الحديث، لأن قبول التلقين دليل على عدم التمييز بين ما هو من مروياته ومن ليس كذلك.
  2. لا تقبل رواية من كثرت الشواذ أي المخالفات، والمناكير أي التفرد الذي لا يحتمل منه. جاء عن شعبة أنه قال: “لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ”، وعلة هذا أنه يدل على عدم حفظه.
  3. لا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته، إذا لم يحدث من أصل مكتوب صحيح، لأن كثرة السهو تدل على سوء الحف أو التغفيل، فلا يكون الراوي ضابطا.
  4. لا تقبل رواية حديث من غلط في حديث وبين له غلطه فلم يرجع عنه وأصر على روايته.. وهذا مروي عن أحمد والحميدي.
  5. لا تقبل رواية من يتساهل في نسخته التي يروي منها إن كان يروي الحديث من كتاب.

وهذه الشروط حسب الدكتور نورالدين عتر رحمه الله تعالى تدل على الجهد الفريد الذي بذله المحدثون في قبول الحديث ورده، في عصور جمع الرواية وتدوينها، فإن هذه الشروط وضعت بمنتهى العناية والأمانة والدقة، وهذا الأمر استعصى على المتأخرين طلبه وتوفيره في الرواة المسندين، وأدى إلى التساهل في العصور اللاحقة لوقت الرواية والتدوين.


[1]  منهج النقد في علوم الحديث (15).

[2]  منهاج النقد في علوم الحديث (20).

[3]  المصدر السابق (73).

[4]  المصدر السابق (80).