قبل البدءفي الحديث عن موضوع التطرف، لابد أن نصحح الصورة الذهنية المرتبطة بالكلمة، ذلك أنه على الفور يقوم الذهن باستحضار صورة الدين أو يرتبط التطرف بالدين إن صح التعبير، وهذا هو ما نجح الإعلام بشكل عام في تحقيقه، سواء كان إعلاماً عربياً أو غربياً..

 التطرف ليس شرطاً أن يكون في الدين. إنه يحدث كذلك في العلم ويحدث في السلوك ويحدث في الأكل والشرب والعلاقات مع هذا وذاك وتلك، إلى آخر قائمة طويلة من عمليات حياتية ليست بمنأى عن التطرف مطلقاً، بل ويمكن للتطرف أن يكون حاضراً في كل مجال..

 لا أجد مشكلة في نشوء التطرف في أي مجال حياتي، لأن ظهوره يعني وجود سبب. وهذا السبب حين أصل إليه سأكتشف أموراً أخرى لم تكن لتظهر لولا بعض مظهريات التطرف. ومثلما لا أجد مشكلة في نشوء التطرف، فكذلك لا أجد ذاك الإشكال في التعامل معه بعد الظهور.

 أولاً لنتفق على أن ظهور التطرف أمر طبيعي، طالماً أننا بشر متقلبي الأمزجة والأهواء ولا نستقر على حال واحدة.. ولو كنا من عالم الملائكة فمن المؤكد أنه لا تطرف أو لا إفراط ولا تفريط. لكننا ننسى أو نتناسى حين نعالج كثيراً من أمورنا الحياتية، أننا نعيش في عالم الإنس، حيث الأصل فيه هو التغير وليس الثبات..

 من هذا المفهوم أجد أنه في حالات نشوء تطرف ما في مجال معين، لابد من التعامل الذكي والواعي معه.. خذ على هذا مثالاً واضحاً يفيدك كيف أن التعامل غير السوي أو الواعي مع تطرف ما، من الممكن أن يساعد على تضخم وتعملق التطرف أو الحالة المتطرفة..إنه مثال التطرف في الدين مثلاً.

أغلب الحكومات التي تعاملت مع هذه الحالة بالقسوة والعنف، ماذا كانت النتيجة نهاية الأمر؟ عنف مضاد، بل بدأ يزيد ويتضاعف حتى صار عملاقاً، وازدادت صعوبة عملية السيطرة عليه، حتى بدأت تنفلت الأمور ليكتوي الجميع بنتائج ذاك التعامل غير السوي وغير العاقل من جانب الجهات الرسمية أو الحكومية أو الأمنية أو سمها ما شئت من الأسماء..

 خذ مثالاً حياتياً آخر على ما نقول..

انظر إلى أي بيت به مراهقون ومراهقات.. إن أي عنف في عملية التعامل مع حالة تطرف قد تظهر في مراهق أو مراهقة، من الممكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية غير سارة. وبالمثل يمكن أن يتكرر النموذج في المدرسة مع طالب ليست له ميول في التعلم النظري ولا يكتشف المعلمون والإدارة المدرسية ذلك سريعا، فيتم وضعه في خانة الطلبة الكسولين والمستهترين والمهملين ويتم التعامل بشكل غير تربوي معه، فتكون النتيجة غير طيبة، دونما حاجة إلى أن أدخل في مزيد شروحات.. والأمثلة أكثر من أن نحصيها ها هنا في المساحة المحدودة هذه، إذ يمكنك أن تتلفت يميناً وشمالاً لتجدها هنا وهناك، في العمل والنادي والمجتمع والدولة بشكل عام..

 الأهم من بعد كل هذه المقدمة الطويلة أن نتعرف على الطريقة التي بها نحاصر أي حالة نشتم منها رائحة بدايات التطرف أو إمكانية أن تحيد عن الصواب والحق لسبب وآخر.. وقبل أن نتعمق أكثر فقد اتفقنا منذ البداية ألا نربط مصطلح التطرف بالدين فقط، فإن هذا أكبر ظلم نلحقه بالدين أي دين.

 لو نتذكر بدايات عهد الدعوة حين كان حضرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يواجه أشد أنواع القمع من قريش، وكيف أنهم تطرفوا بشدة في التعامل معه صلى الله عليه وسلم، لم يواجه القسوة بالقسوة بل واجههم بالأداة التي ندعو إلى استخدامها واستثمارها الاستثمار الأمثل اليوم في مواجهات التطرف في كافة مجالات الحياة..

إنها أداة الحوار ولا غيرها من أدوات.. الحوار هو السبيل الأوحد والأمثل للتعامل مع أي حالة تطرف وفي أي مجال يكون.. فحين يتم تسفيه الرأي ويتم تجاهل الحقوق ويتم تحقير الآخرين، فإن كل تلك المعاملات هي بمثابة وقود للتطرف السياسي مثلاً.. وحين يتم تجاهل متطلبات النفس البشرية الفطرية سواء من قبل المرأة للرجل مثلاً أو العكس فإنه يحدث التطرف في إشباع الغرائز، وحين يتم تسفيه المراهق وعدم الجلوس إليه والاستماع إلى ما بنفسه من مشاعر فإنه يتطرف ويحطم التعليمات والأوامر الأسرية وهكذا الحياة مليئة بالنماذج الشبيهة وكلنا يعرفها.

 إن الحوار هو الأداة الأسلم لتجنب كثير من المشكلات، وما الحاصل الآن في مواقع كثيرة من العالم العربي إلا نتيجة غياب أو تغييب واضح لهذه الأداة المهمة الراقية في حياة البشر.. الأداة التي توصل إلى معرفة أهميتها العالم الغربي منذ أكثر من خمسين عاماً، فتجد شعوب الغرب أو الغالبية منهم لا تشعر بالقهر أو الحاجة إلى الخروج على الدولة من أجل أبسط الحقوق كما الحاصل في المنطقة العربية على سبيل المثال لا الحصر..

 إن ديننا دين المجادلة بالتي هي أحسن ولا إكراه في الدين.. الدين الذي يحترم أولي الألباب.. الدين الذي يحترم الرأي ويحترم العقل ويحترم المشاعر، فكيف للبشر المنتمين إليه يخالفونه بشكل فيه تطرف كبير لا يوصف؟ إن التناقض الحاصل هذا هو سبب معاناة غالبية الشعوب العربية.. نقول شيئاً، ونعمل أشياء أخرى كثيرة مخالفة!! فهل عرفنا بعد هذا الحديث كيف ينشأ التطرف؟