منذ أكثر من قرنين والعلمنة تسعى للسيطرة على الإنسان؛ فمنذ لحظة تجليها مع الثورة الفرنسية رغبت أن تكون دينا جديدا، يهيمن على الحياة ويصوغها، وفق منظور يقدس الذات، ويُنحي الدين.

ولكن هل استطاعت العلمانية أن تتحول إلى دين، وهل نجحت في فهم الروح ومداواتها، أم أن الروح بقيت مجالا مستعصيا على العلمنة فهما وإخضاعا ؟

الخروج الكبير

المفكر البريطاني “جيم هيريك” Jim Herrick وضع تعريفا للعلمانية هو: ” العلمانية بالمعنى الأكبر تعني أن الناس لا يرجعون إلى الدين في اتخاذ القرارات، أو لتبني السياسات، أو لإدارة حياتهم، أو لتنظيم علاقاتهم، أو لدفع أنشطتهم” يكشف  التعريف عن رؤية في إزاحة الدين تماما من الحياة، فلا علاقة للدين بصنعها أو إدارتها، غير أن العلمانية أخرجت الكثير من البشر من الأديان، ولم توفر لهم بديلا، وإذ كان البعض رأى في الإلحاد مأوى، فإن الغالبية لم ترض عن ذلك، ورأت أن الإلحاد ليس ثمنا يكافيء ترك الدين، ولم تستطع العلمانية أن تكون بديلا لما يمنحه الدين للإنسان من روحانية ومعايير، ورؤية شاملة للكون.

ولكن هل حقق الإخراج العلماني لكثير من الناس عن أديانهم نتائج إيجابية، أم أن أعداد ما يسمى بـ “الأدريين”  Agnosticism ، أي الذين لا يدينون بشيء في تزايد، وهؤلاء يقعون في المنطقة الرمادية، بين الدين والإلحاد، فهم يؤمنون بالحاجة إلى الدين، لكنهم يرفضون الإيمان بالخالق، في كتاب “الطفرة العلمانية” Secular Surge  الذي أعده ثلاثة من علماء السياسة الأمريكيين، أكد الكتاب على تنامي أعداد الأمريكيين الذين يؤمنون بالعلمانية، والذي يزيد عددهم على ربع الأمريكيين، لكن المأزق الأكبر الذي تحدث عنه الكتاب هو ليس في الأعداد، ولكن تحول هؤلاء إلى نوع من التعبئة والنشاط السياسي، والسعي لتحقي أهداف مشتركة، وانعكاسات ذلك اجتماعيا وسياسيا على مسألة الهوية، التي يلعب الدين دورا في تشكيلها في المجتمع الأمريكي، أي أن للعلمنة كلفتها الباهظة على بناء الهوية.

الطفرة العلمانية

فمنذ الثورة الفرنسية كان المسار الذي بشرت به العلمانية، هو أن الناس ستنقطع أواصرهم مع الدين، وأنهم سيتحررون من السيطرة الدينية، وأن البشرية ستسير باتجاه العقلانية، فالعقل هو الإله الجديد، فهل نجحت العلمانية في عقلنة مجتمعاتها؟

الإخفاق الروحي

إذا كان تاريخ الصراع بين الأديان والعلمانية، خلال المائتي عام الماضية، كشف عن قدرة الأديان على التأقلم مع التحديات والإشكالات التي فرضتها العلمنة المتواصلة، فإن السؤال المهم هو مدى قدرة العلمنة على التأقلم والإجابة على الإشكالات الكبرى التي فرضتها الأديان، خاصة في الجانب الروحي، وفي أبرز تجلياته وهو الشعائر والطقوس؟

الحقيقة أن الإهمال والإغفال العلماني للجانب الروحي والغيبي، جعل العلمانية منحصرة في الإطار المادي، فمع الثورة الفرنسية فكرت العلمانية في تقليد الدين في جانبه الشعائري والطقوسي، فابتكرت ما سمي وقتها بـ”عبادة العقل” ففي 10 نوفمبر 1793، تم تنظيم احتفال في كاتدرائية “نوتردام” بباريس، للاحتفال بـ”عيد العقل” Fête de la Liberté ،  فسعت العلمانية لاقامة نوع من الشعائر العلمانية توازي الشعائر الدينية، وذلك في ظل سعيها لبناء عام جديد بلا إله، فكانت تلك العبادة قائمة على الرقص الغناء والاستعراضات، وقام أحد رجال الثورة وهو “أنطوان مومورو” بتسليم زوجته لتمثل دور الآلهة وسط الاحتفال، فحملتها الجماهير، وعلت من حولهم الموسيقى، في احتفال صاخب، لكن لم تستمر هذه الشعيرة العلمانية إلا قليلا فمع 8 يونيو 1794 تم الاحتفال بالكائن الأسمى وهو “العقل .

عقب هذا الإخفاق في بناء طقوس علمانية، يشير المؤرخ الأمريكي  كارلتون هايس Carlton J. H. Hayes في كتابه “القومية كدين” أنه تم “تتويج الدولة القومية كموضوع مركزي للعبادة” في ظل الفراغ في المعني الناجم عن تغييب الدين، فكانت الدولة القومية كيانا أكثر محسوسية من العقل، وتمتلك وسائل العنف والإكراه لإجبار الناس للدفاع عن أرضهم، كما أنه حلت مكان الدين في التعامل مع الأموات من خلال إقامة النصب التذكارية ومنح النياشين، ولسان الحال يقول “موتى الأمة القومية لن يضيعوا هباءا”، فكانت الحروب القومية في أوروبا، وسقط فيها مئات الآلاف من الضحايا، لكن بعد فترة تجددت الحاجة إلى الدين، مع ظهور الشيوعية، والحرب الباردة، حتى إن الولايات المتحدة أصبح شعار بـالله نثق” In God we trust شعارا وطنيا رسميا بعدما وقع عليه الرئيس “أيزنهاور” عام 1956، كما أصبح شعارا على العملة الأمريكية، الدولار، ، وهو شعار أيده 90% من الأمريكيين عام 2003، ليقبع الشعار في لوحة فوق مقعد رئيس مجلس النواب منذ العام 1962، أي أن المكانين الذين يُعتبرا أكثر الأماكن تأثرا بالعلمنة، وهو مجلس النواب، أهم أروقة المجال السياسي، والمال في خلفية الدولار عصب الحياة، احتلت “بالله نثق” كنقش فوقهما.

وأمام هذا الإخفاق، تلمست العلمانية نجاحا من خلال التأسيس للممارسات دينية علمانية، مثل: مهرجان “الرجل المحترق Burning Man الذي يعقد سنويا في صحراء نيفادا الأمريكية حيث يحرق فيها تمثال خشبي، ويحضره عشرات الألوف، ويعقد منذ 35 عاما، لكن أعداد الحضور تتناقض مع غياب المعنى في الاحتفال الصاخب،

أو “تجمع الأحد Sunday Assembly الذي اعتبر أن كنيسته بدون إله، وهي حركة بدأت في لندن عام 2013، وافتتحت لها فروعا في عدة دول غربية، وتقدم خدمات تشبه الخدمات في الكنائس، لكن دون أن تعترف بوجود إله، ويقتصر احتفالها على أغاني، ونصائح في التنمية البشرية، بطريقة تشابه ما يقدم في الكنائس، لكنها تبقى كما وصفها البعض “كنيسة ملحدة”، ومراوغة مع الدين.

وفي ظل إصرار العلمانية على تعريف نفسها من خلال المقابلة مع الدين، فإنها فتحت الباب أمام عبادات مخيفة، منها: عبادة “الشيطان” لدرجة أنه وضع في بعض المباني الحكومية الأمريكية، منحوت يمثل عبادة الشيطان Baphomet بافوميت كرمز للحركة الشيطانية الحديثة عام 2015، فخرج الناس من الإيمان بالخالق إلى عبادة الشيطان، فكان ذلك كارثة، ورجوع مخيف إلى الوثنية ، وكما قيل: ” أصبحت العلمانية أكثر من مجرد عدم إيمان، لقد باتت اعترافًا إيجابيًا بممارسات روحية دنيوية” أي أن العلمانية أغلقت الباب في وجه الدين، ومع فشلها في الإشباع الروحي للإنسان، فتحت الباب لديانات وأساطير بالية، لتهيمن على الإنسان، وتعود به إلى الوثنية، فكان إخفاقا مروعا، إذ لم تتطور العلمانية نحو العقلانية، ولكن عادت إلى البدائيين وأساطيرهم ووثنيتهم.