“حاول أن تخترق بوسائلنا المحدودة أسرار الطبيعة، وستجد أنه وراء كل السلاسل المتميزة، لا يزال هناك شيء خفي، وغير ملموس، وغير مفهوم، التبجيل لهذه القوة يتجاوز أي شيء يمكننا فهمه؛ هو ديني.. إلى هذا الحد، أنا، في الحقيقة، متدين”، كان ذلك رد عالم الفيزياء الشهير “ألبرت أينشتاين”، على الفيلسوف البريطاني الملحد “ألبير كير” الذي زعم أن مفهوم وجود الله لا معنى له”، كان “أينشتاين” تتملكه الرهبة خلال مساعيه لاكتشاف ألغاز الكون وأسراره، ويقول:” كفي أن أتساءل عن هذه الأسرار، وأن أحاول بكل تواضع أن أفهم في ذهني مجرد صورة للبنية السامية لكل ما هو موجود”، أو كما يقول علي عزت بيجوفيتش  أن “ضيق أفق الإنسان يتجلى أكثر ما يكون في اعتقاده بأنه لا يرى أمامه لغزا”.

الاعتقاد والطمأنينة

تعامل الإنسان بعقله المجرد مع الكون وأسراراه وإعجازه، لن يوفر له الاطمئنان، أو حتى الرؤية الكامل والواضحة عن الكون، فالاكتشافات التي يصل إليها الإنسان، هي انكشافات لما هو موجود، كانت محجوبة عن الإنسان، فمعرفة قانون يحكم حركة شيء ما في الكون، هو وصول إلى ما هو موجود، وليس اختراعا  للحركة ذاتها، والمدهش أن الجهل بالكون يزيد مع تنامي العلم بهذا الكون، فانكشاف بعض حقائق الكون وأسراره يجعل الإنسان يحتك بالمجهولات الكبرى، ومن هنا يصبح الاعتقاد ضرورة لتوفير فهم وتفسير للكون، وهنا يترآى الإلحاد أمام الراسخين في العلم كشيء تافه؛ بل ومدمر للإنسان ذاته، إذ يحرمه من نعمة اليقين والاطمئنان، يقول الكاتب الأيرلندي “سي. إس. لويس”: ” تبين أن الإلحاد بسيط للغاية، فإذا كان الكون كله بلا معنى، فلا يجب أن نكتشف أبدًا أنه لا معنى له”.

والحقيقة أن الاعتقاد هو الذي يصوغ المعنى للإنسان، ويشيد تصوره عن الخالق والكون والمخلوقات والإنسان، وبدون هذا الاعتقاد تغيب التصورات الكبرى، وتكثر الأوثان في حياة الإنسان.

الجوع إلى الاعتقاد

فـ”الجوع إلى الاعتقاد” كما يصفه “عباس العقاد” فطرة إنسانية، وليست ترفا أو رفاهية، فبدون العقيدة يفقد الإنسانُ الإحساسَ بالمعنى لكل شيء، وربما هذا ما دفع الكاتبة الهولندية “كوري تن بوم” Corrie ten Boom لترسيخ الفكرة بقولها ” “لا تخف أبدًا من الوثوق بمستقبل مجهول لإله معروف”، فالاعتقاد بوجود إله للكون، يُنشيء حالة من الاطمئنان الواعي، ولهذا كان اللغوي الإنجليزي ” جون رونالد تولكين” يقول:” “الكافر هو الذي يقول وداعا عندما يظلم الطريق”.

الواقع أن العلم لا يستطيع أن يعطي إجابات مباشرة لسؤال المعني، إذ أن الآراء العلمية تنصرف غالبيتها إلى سؤال الوظيفية والكيفية، وليس الغاية والمعنى، والقوانين العلمية والنظريات هي صياغة لحقيقة قائمة، وليست إنشاءا لها، والملاحظ أن الكثير من العلماء كانوا يظنون أن الحداثة تقود حتما إلى تدهور الدين، وهي فكرة استمرت قرابة قرنين، غير أن عالم الاجتماع الأمريكي ” بيتر بيرجر ” بحث تلك الفرضية قرابة العشرين عاما، وخرج  بخطأ الفرضية السابقة، ورأى أن الحداثة لا تنتج بالضرورة العلمانية، فالمنطق العلمي يؤكد أنه عندما ينهار أحد النماذج النظرية تحت ثقل الأدلة ، فإنه يفتح إمكانية نماذج جديدة، والاعتقاد الذي حورب من التنوير والحداثة، كان معركة خاطئة، وكان ضحيتها الإنسان ذاته، الذي فقد المعنى لحياته، مع فقدانه للاعتقاد، الذي كان يشبه النواة الصلبة في أعماقه تكفل له الصمود أمام أسرار الكون وتقلبات الزمان، أصبح الإنسان المعاصر هشا للغاية.

كتاب ” الدين ومعنى الحياة: نهج وجودي ” للمؤلف كليفورد ويليامز

في كتابه ” الدين ومعنى الحياة: نهج وجودي “[1] لـ ” كليفورد ويليامز” Clifford Williams والصادر في أبريل 2020، يقدم رؤية لسؤال المعنى، فالبشر يحتاجون أن يعيشوا بشكل هادف، أي أن تكون هناك غاية ومعنى لحياتهم، وغياب تلك الغاية يدفع الإنسان إلى الملل والصدمات والانهيار والانتحار، فما يُكسب الحياة معناها هو الاعتقاد، لذلك فإن الكتاب موجع للرؤى العلمانية المادية، لأنه يحدد لذلك الإنسان كيف يرى العالم، وكيف يتواجد فيه من خلال الإيمان والاعتقاد، حيث ركز الكتاب على وصف التجارب التي تحدد العوائق التي تعترض المعنى، وكذلك مسارات الوصول إليه، وهو ما جعل الكتاب مقنعا، وغير مستغرق في رؤى فسلفية قد ينفر منها البعض.

أما الفيلسوف والبرفيسور الكندي ” تشارلز تايلور ” Charles Taylor في كتابه “عصر علماني” A Secular Age ، فيقدم طرحا علمانيا لسؤال المعنى، فقد طرح سؤالا وهو :” لماذا كان من المستحيل عمليًا عام 1500م في مجتمعنا الغربي عدم الإيمان بالله ، في حين يجد  الكثير منا عام 2000م هذا ليس سهلاً فحسب ، بل لا مفر منه أيضًا؟”.

كتاب “عصر علماني” A Secular Age للكندي ” تشارلز تايلور

يشير الكتاب إلى أزمة اكتفاء الإنسانية بذاتها، فالازدهار البشري المنتشر على نطاق واسع، لم تشهده البشرية قبل ذلك، ولعل هذا ما أوجد أنواعا منافسة للإيمان، إذ لم يعد الإيمان هو الذي يشكل الإنسان، كما كان في السابق، ولكن تنافس معه أشكال أخرى، ورغم موقف الكتاب المعاند للرؤية الدينية، إلا أنه إشارته إلى فكرة “اكتفاء الإنسانية بذاتها” مسألة مقلقة، فأمر الإنسان أصبح إلى نفسه، وظن هذا الإنسان أن حالة الترف والتقدم المادي كفيلة بأن تُسكت الحاجة إلى اليقين والاعتقاد في قلبه، لكن هذا غير صحيح، إذ أن هذا الاكتفاء أزمة عميقة، لأنه يضع الإنسان بين حدي الميلاد والموت، ويقصر طموحه وغاياته على المتعة والمنفعة دون غاية سامية متجاوزة، أي أن البشرية وقعت في مستنقع المادية ظنا منها أن فيه  خلاصها.

والحقيقة أن الدين عاش منذ عشرات الالاف من السنين، وأكثر من 85% من البشر لهم نوع ما من الاعتقاد الديني،  فالإنسان يميل إلى الاعتقاد بوجود قوة خارقة في الكون، وهذا الاعتقاد يُنتج الأمل والطمأنية والتفاؤل، وتشير الدراسات النفسية والصحية أن للمعتقد تأثيره الإيجابي في غالب الأحيان على الإنسان، لأنه يصنع “المعنى المحفز” للفعل، كما أنه يخلق تماسكا بين تصورات الإنسان المتفرقة ويصوغ منها إطارا قادرا على التفسير، وفي هذا يشير عالم النفس مايكل إنزليخت Michael Inzlicht إلى أن “المعتقدات الدينية تمنع الضيق المرتبط باضطراب المعنى”، وكما تؤكد الحكمة العظيمة:”إذا لم تدافع عن شيء ما فسوف تسقط من أجل أي شيء”.


[1]  Religion and the Meaning of Life: An Existential Approach