Daniel Greenfield

أكدت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل خلال استقبالها للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أنه “لا يمكننا أن نسمح بالتراجع الى أوقات ما قبل العولمة. وفيما رحبت ميركل بأوباما في برلين بعد إعادة انتخابها ،أكد الطرفان على ضرورة الحفاظ على مكتسبات العولمة والدفاع عنها، لأن فكرة الرجوع إلى عصر ما قبل العولمة تعد ضربا من الجنون أو عودة إلى عصر الكهوف.

أصبحت العولمة تستخدم ككلمة مرادفة للحضارة، ويرجح الكاتب الشهير توماس فريدمان انتشارها بسقوط جدار برلين في نفس المدينة التي جمعت ميركل وأوباما. على الرغم من أن العولمة لم تؤدِ إلى سقوط جدار برلين، بل العامل القومي هو السبب.

أراد الناشطون المؤيدون للديمقراطية أن يكون لهم صوت وهذا أمر يخالف قيم العولمة التي لا تؤمن باحترام خصوصيات الأمم وتقاليدها الثقافية وتختزل التأثير في الشخصيات من مختلف المشارب.

بنت العولمة جدار برلين لتوحيد ألمانيا الشرقية مع كتلة شيوعية وتأسست حول مجموعة من الأفكار السياسية التي تجاهلت الأمم والشعوب.

لقد أخذ اليساريون درسا مضللاً بعد سقوط الشيوعية، وبدلا من إسناد هذا السقوط إلى الحكومات المركزية والبيروقراطيين غير الخاضعين للمساءلة، فقد طوروا نسخة مادية تاريخية جديدة لعولمة ما بعد الحداثة.

وفي وقت أعلنا فيه ميركل وأوباما الحداد على العولمة بسبب ما حققه ترامب من انتصار في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، أصبحت برلين مختبراً رائعا لمراقبة النتائج النهائية لفلسفتها.

فتحت المستشارة الألمانية ميركل حدود بلدها أمام مليون من المهاجرين المسلمين من الشرق الأوسط بسبب انخفاض معدلات المواليد في بلدها.

وكان من المفترض أن تندمج الفئة المهاجرة بالسوق وتستكمل القوة العاملة الألمانية، فيعمل السوريون على بناء سيارات “المرسيدس” ،وسيقوم الباكستانيون بتطوير أجهزة “سيمنز” وتزويدها بالموجات فوق الصوتية وسيقوم الصوماليون بإنتاج أدوية “باير”.

كانت الفكرة التقليل من حاجة ألمانيا في مواصلة استكشاف النموذج الياباني للأتمتة*  وإحلاله محل السكان المتناقصين في سوق العمل.

لكن غالبية المهاجرين لم يأتوا إلى ألمانيا للعمل. لا يزال الألمان وأبناء أوروبا الشرقية يعملون في شركات “سيمنز” و “مرسيدس” و “باير”. واتضح لاحقا أن “اللاجئين” جاءوا لبرامج الرعاية الاجتماعية السخية. وبعد وقوع بعد الأضرار تريد ميركل منحهم أموالاً للمغادرة.

دولة الرفاهية في كل مكان فى أوروبا تسعى للتعويض عن التناقض بين مستوى المعيشة المتوقع والخيارات المتدنية لكسب العيش. فالعولمة لم تربط بين الاقتصادات لخلق عصر ذهبي جديد.

نقلت العولمة الوظائف والإنتاج إلى دول ذات مستويات متدنية فى المعيشة ولا تقيم وزنا لحقوق الإنسان والتدخل الحكومي كبير في اقتصاداتها، ومن غير المستغرب أن تزدهر الصين وتتراجع الولايات المتحدة في تلك البيئة.

ولكن في الوقت نفسه، نقلت أيضا المهاجرين للعمل فى أمريكا وألمانيا للاستفادة من برامج الرعاية الاجتماعية التي كانت تهدف إلى تخفيف الأثر الاقتصادي للعولمة على السكان الأصليين.

في هذه الأيام الغرب حصل على نوعين من المهاجرين الاقتصاديين هما : المتطفل والمزاحم .يمكن للمزاحمين خلق فرصهم الخاصة مثل الكوريين الذين يعملون في المتاجر المحلية الصغيرة أو اليهود الروس العاملين في مجالات الانترنت. ولكن النجاح يتطلب الإبداع، والذكاء وأخلاقيات العمل الطموحة. معظم المهاجرين هم من فئة المتطفلين. وهم يحصلون على مزيج من وظائف الرعاية الاجتماعية والوظائف الهامشية. إذا كان لديهم طموح فأقصى أمالهم الحصول على وظيفة حكومية مريحة.

العولمة تصدر الوظائف وتستورد المتطفلين مما يجعلها ضربة مزدوجة للغرب. وهذا بمثابة عقاب للبلدان التى تتمتع بمستويات عالية من الرفاهية وحقوق الإنسان من خلال حرمانهم من كليهما. من الصعب التفكير في أي طريقة أفضل لتدمير الحضارة.

إن الهبات السياسية والاجتماعية للعولمة كانت مدمرة بقدر أكبر من آثارها الاقتصادية. وبدلا من ربط العالم ببعضه، أتاحت العولمة موجة جديدة من العدوان من قبل الدول الشيوعية الفاشلة السابقة، ومكنت الإرهابيين من شن هجمات في عمق الغرب.

كما مولت العولمة أيضاً برنامج توسع الصين فى بحر الصين الجنوبي وتزايد الصراع الذي قد يؤدي الى حرب إقليمية. كما سمح للروس بتحويل الأميركيين ضد بعضهم البعض وسمح للإرهابيين على بعد آلاف الأميال بتنسيق الهجمات المدمرة على أمريكا وأوروبا.

حتى الإنترنت، الذي كان رمزاً للعولمة، لم يجمعنا معاً. بدلاً من ذلك مزقنا إلى قبائل متحاربة تعيش في جزر منفصلة. أصبح هذا الجيل الذى نشأ على شبكة الإنترنت أكثر تعصباً لحرية التعبير. وحتى وسائل الإعلام المؤيدة للعولمة تطالب بوسائل جديدة للرقابة على وسائل الإعلام.

لقد أصبحت الأحلام الطموحة للعولمة التي كانت هدفها توحيد الجهود الحكومية ضد اليسار مع أنصار السوق الحرة فى اليمين كابوساً. وقد أدت إخفاقاتهم إلى تجدد الانتماء للأفكار اليسارية، وما صعود المرشح الرئاسي الأمريكي السابق بيرني ساندرز والإرتياح المتنامي للاشتراكية بين الديمقراطيين سوى مؤشرات لرفض ” السوق الحرة”. وعلى الجانب الاخر، فإن النزعة القومية الشعبوية تتخلص من التزاما لا لبس فيه بالسوق الحرة.

إذاً العولمة تواجه فشلا عالميا. وقد دفعت الصين إلى طريق ضيق ومظلم من الفقاعات الاقتصادية، والإنفاق القهري والاستعمار. وتُكرر الصين بسرعة سيناريو قرن التقدم الاقتصادي الغربي في غضون عُقود. وهو تكرار نفس المشاكل و نفس الطريق المسدود. ولن تجد الحلول عن طريق البحث عن عمالة رخيصة في أفريقيا أو عن طريق إلهاء سكانها بحرب جديدة.

في كثير من الأحيان العولمة تربط الاقتصادات والمجتمعات بنقاط ضعفها أكثر من نقاط قوتها، فهي تصدر الصراعات وعدم الاستقرار بسهولة أكثر من أنماط التقدم والاستقرار.

النُظم المتطورة هي أكثر عُرضة للتأثر من تلك البدائية. هذا هو السبب في أن أفغانستان والعراق أثرتا على أمريكا أكثر من تأثير أمريكا عليهما.

وفي عالم مُعولم، يعمل الاستعمار في الاتجاه المعاكس مع المجتمعات غير المستقرة التي تصدر عدم استقرارها إلى مجتمعات مستقرة.

إن دُعاة العولمة ينادون بتدويل الثقافة ولكن الثقافة في المجتمعات التقليدية أعمق بكثير من قصص “مارفيل” أو “هاري بوتر”. إنها فقط في الغرب، حيث ضاعت الثقافة والتقاليد والديانات، واستبدلت بثقافة “البوب” وأمست الهوية ضحلة وغير مستقرة.

إن العولمة لا تقودنا إلى عصر ذهبي جديد مٌشرق، بل إلى الشيخوخة. وتنفذ هذا الاستعمار الجديد تلك الثقافات ذات الإحساس القوي بالهوية ضد موجة ما بعد الحداثة.

إن تراجع الدول الغربية لا يفتح الباب أمام حكومة عالمية، وإنما إلى قوة الصين الصاعدة وروسيا وإيران. إن كل ما تحقق من تقدم اجتماعي جعلنا أكثر تعصباً وفُرقة من أي وقت مضى.

إن هدم الحدود المادية والاقتصادية والثقافية، لم يجعلنا أكثر انفتاحاً. وبدلاً من ذلك، نعيش في مجتمعات مُعادية ومُثيرة للانقسام وغير مستقرة تفتخر بانفتاحها حتى عندما تكشف النقاب عن مخططات جديدة لمراقبة الإنترنت، وتقييد حرية التعبير ومعاقبة المعارضة الاجتماعية.

إن طريق العولمة في النهاية مسدود.. المجتمعات المنفتحة أساسها منفتح من الداخل ويتم فيها تبادل الأفكار بين أفرادها في المقابل نجد أن المعاملة تختلف مع مجتمعات تختلف ثقافتها.

الأسواق الحرة تكون “حرة” فقط عندما تتفاعل مع أسواق تشبهها ، لا مع ظروف مستبدة لا يهمها سوى السعر.

ومع سقوط العولمة، يمكننا أن نعيد بناء الدول القومية الوظيفية أو تجتاحنا  فيضانات عالمية.


*  عمليات تلغي تدخل الإنسان كلياً أو جزئياً في المهام الصناعية