في فناء منزلنا الصغير في مكة، كان أبي رحمه الله يجلس بعد تناول العشاء، وبين يديه إبريق الشاي، وفي يده مذياعٌ صغير تصدر منه أصواتٌ كثيرة علق بأذني من بينها صوتٌ يقول: “هنا لندن”، ثم تنطلق موسيقى الأخبار.

 

كنت حينها صغيراً، في الخامسة ربما، ومنذ ذلك الحين تعرفت إلى لندن، بأذني وحسب، والأذن تعرف قبل العين أحياناً. ولم أعرف عن لندن الكثير، ولكني سمعت “هنا لندن” مئات المرات وربما ألوف المرات، من مذياع أبي رحمه الله، ورأيتها كثيراً، في تقارير الأخبار، والأفلام الوثائقية، وقرأت القليل عن لندن، وكان حظ الخيال فيما قرأته من لندن أعظم من حق الحقيقة.

وأي خيالٍ أبعد رمياً من خيال جورج أورويل في روايته “١٩٨٤” الذي بنى بريطانيا متخيلةً مختلفةً تماماً عن بريطانيا التي يعرفها الناس، ليس فيها من قديم إلا اسم لندن، بلدٌ اشتراكي متطرف إلى حد يتعوذ منه التطرف نفسه، كل شيء في لندن أورويل مختلف: اللغة جديدة، والنظام الحاكم جديد، والأحداث القديمة تروى بصيغة جديدة لا علاقة لها بالواقعية ولا الصدق من قريب ولا بعيد، حتى الوزارات لها أسماء جديدة: وزارة السلام، ووزارة الحقيقة، ووزارة الحب، ووزارة الوفرة، وكل وزارة من هذه تقوم بكل ما يضاد اسمها ويناقضه.

لم تكن رواية “١٩٨٤”أولى مصافحاتي لعاصمة الضباب، فقد صافحت لندن أولاً من خلال إغاثا كريستي، الروائية البريطانية التي كتبت الكثير من روايات الجريمة، التهمت عدداً لا بأس به من رواياتها، ولا تسعفني الذاكرة كي أحصي ما قرأت من عناوين رواياتها اللندنية؛ فقد مضت سنوات لا تقل عن خمس عشرة منذ أقلعت عن قراءة كريستي، لكن أتذكر جيداً رواية “الأربعة الكبار” التي تجري بعض أحداثها في لندن، والتي يحاول فيها المحقق “هيركيول بوارو” البطل الدائم، النحيل واسع الحيلة حل قضية إجرامية غامضة ومعقدة، ويضطره الأمر للتنقل بين مدينة وأخرى، ومواجهة عقبة بعد عقبة، حتى يُحلّ الإشكال ويزول اللبس وينكشف المجرمون جميعاً.

من خلال إغاثا كريستي عرفت بعض تفاصيل الحياة الإنجليزية: شاي ما بعد الظهر، وفطيرة التفاح، والأطباق التي تبدو شهية حين توصف -لا حين تؤكل على الأرجح- وتلك العادة التي تقضي بإطلاق أسماء على المنازل، وكأن الناس لما فرغوا من هموم تسمية أطفالهم أحبوا أن يسموا البيوت! وعدد من روايات كريستي يدور في الريف، (أو ضواحي لندن كما في رواية البيت الأعوج).. تقرأ فترى المروج والتلال الخضر من النافذة، وتشم رائحة الكعك يخبز في المنزل، وترى الدخان يصعد عالياً في السماء من مدخنة الدار، وتسمع صرير الأرضية الخشبية تحت قدمي المحقق وهو ينتقل من مكان إلى مكان في الدار.

من الكتب اللطيفة التي أتذكرها رواية مغامراتٍ عنوانها: “حول العالم في ثمانين يوماً”، التي سطرها جون فيرن، بطل هذه الرواية رجل لندني مكتهل، يراهن رفاقاً له على مبلغ مقداره عشرون ألف جنيه إسترليني، يغرمها إن أخفق في المغامرة ويغنمها إن أنجح، وما المغامرة يا ترى؟ جولةٌ حول العالم في ثمانين يوماً، تتكلل بالنجاح، لكن بصعوبة بالغة، وبعد مغامرات وعوائق غير متوقعة.

لا شيء من كل ما سبق يروي غليلي من لندن، ولأني لا أملك سعر التذكرة إلى لندن؛ كانت القراءة عن لندن خياري الوحيد. وكنت أعثر على نتف من لندن في بعض المذكرات والسير الذاتية.

وذات يوم كنت أتجول في واحدة من مكتبات مكة التجارية حين شاهدت كتاباً صغيراً معنوناً بـ”باي باي لندن” لغازي القصيبي، رحمه الله، اقتنيته من فوري، كان الكتاب بضعة مقالات، أولها يحمل عنوان الكتاب، وكان حديثه عن لندن ماتعاً جداً، وذكر فيه الكثير عن لندن مما يشوق ويلذ، ومما يخيف، لندن كما صورها القصيبي مدينة لا تعبأ بأحد ولا تحفل بمن يغشاها من شرق العالم وغربه، وهي مدينةٌ من نبغ فيها نبغ في كل العالم، ولكن السؤال هو: منذا الذي يستطيع أن ينبغ في لندن، وفيها من خبرة العقول ومن أذكياء العالم ومن نخبة النخبة، ولندن في نظر القصيبي كوكبٌ مستقل عن كوكب الأرض، له قوانينه وأعرافه.

مرت سنة أو اثنتان، وتعرفت إلى كولن ويلسون، الفتى اللندني الذي كان يؤلف كما يتنفس، ومن خلال سيرته الذاتية “حلم غاية ما” أتيح لي أن أعيش في إحدى بلدات بريطانيا، في أسرة على وشك التصدع، في منزل على وشك التداعي، يعمل والده في مهنةٍ توشك ألا تكفيه ليقوت نفسه ومن يعول، بدت لي بلدة رثةً، مختلفة عن لندن الفاخرة التي تلوكها الألسنة ويسطر عنها المؤلفون، ومختلفة عن لندن التي سيعرفها من بعد، والتي سأحدثك عنها بعد قليل.

قبل ليالٍ، جالست مولانا الأستاذ عارف حجاوي، الذي عاش في لندن سنين عدداً، وسماها “”ذات المعاطف”، سألته عنها، وأجابني، تحدث عن جوها المتقلب، وأمطارها التي لا تكف عن الهطول، وعن روتينه في تلك المدينة الكبيرة، وعن بيئة العمل في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، وهي ذاتها الإذاعة التي كانت، وما تزال، تقول للناس: “هنا لندن”.

دلني الأستاذ عارف على رواية لكولن ويلسون تحمل عنوان “ضياع في سوهو”، طالعتها؛ فإذا هي لمحة -على نحو ما- من سيرته الذاتية، حين وصل لندن شاباً مستهتراً بالشراب، عاشقاً للموسيقى، يتسكع في طرقات “سوهو”، تلك المحلة اللندنية التي لا تمت بصلة إلى لندن بيج بين وهايد بارك، يتنقل بين البيوت المستأجرة، والمكتبات، والحدائق، والوظائف المؤقتة، ويحمل -أثناء تجواله المحموم- حلماً شديد البذخ، حلم أن يغدو كاتباً، أو بتعبير أدق: أن يغدو آلة كتابة، يكتب بانتظام، وعلى نحو محموم، ويصدر كتاباً وراء كتاب، ويغذي عيون القراء بجديد من بعد جديد، ذلك الحلم أصبح حقيقة فيما بعد، إذ أصدر ويلسون أول كتبه وأجلّها: “اللامنتمي” وهو كتابٌ حقق من المجد ما ندر أن يحققه كتابٌ.

أفلح ويلسون في تغذية فضولي تجاه لندن التي عاش بها، لكنه لم يفلح في تحبيبها إلى نفسي ولا تزيينها في قلبي، فالمدن الكبرى -ولندن في طليعتها- بحارٌ عميقةٌ يحتاج المرء إلى الكثير من الاستعداد الذهني والنفسي كي يغوص فيها ويخرج سالماً. وفي مراغمة أمواج إسطنبول عوض عن أية مغامرة جديدة!