من بين الرسائل القرآنية التي تتكرر في مواضع شتى من سوره، تلك التي تحث الإنسان على أن يملك زمام اختياره وقراره، وألا يقع في تبعية عمياء للعادات والتقاليد. فالإسلام جاء ليحرره من كل وصاية تشلّ إرادته وتفكيره، إذ أن مهمة الاستخلاف وعمارة الأرض لن تتحقق بكائن مسلوب الإرادة.

غير الإنسان في حياته الاجتماعية لا يلبث أن يقع مجددا تحت تأثير المجتمع، بتقاليده وقيمه، وبشتى أنواع الإيحاء التي تعادل التنويم المغناطيسي. فيجري استبدال السلوكيات والمعايير، بأخرى ظاهرها الدين وباطنها البدعة المخزية. وكم كان سفيان الثوري رحمه الله دقيقا في تعبيره عن أصلها الشيطاني حين قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية!

تأخذ البدعة مسارها الحثيث داخل المجتمع لعدة أسباب، أهمها برأي الشيخ محمود شلتوت أن يقع اعتقاد العصمة في غير المعصوم، وهو ما يشيع في الغالب لدى المتصوفة الذين يعتقدون عصمة شيوخهم من الزلل، فيتمسكون بكل رأي أو فعل يصدر عنهم حتى وإن ثبت مخالفته للشرع. ويحدث أيضا لدى المقلدين من أتباع الفقهاء، ممن حملهم التعصب على إنكار الحق، وروجوا للبدعة تحت شعار: من قلّد عالما لقي الله سالما!

والأمر الثاني هو التهاون في بيان الشريعة على الوجه الذي نُقلت به عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ويكون التهاون من قبل العلماء إما سكوتا، أو مجاملة للحكام، أو تواكلا، حتى قال الفقيه القيرواني سعيد بن الحداد: إن الذي أدخل كثيرا من الناس في التقليد نقصُ العقول ودناءة الهمم!

إن في دفاع المبتدع عما يستحسنه من الأقوال والأفعال، والعادات التي يراها من لوازم تدينه، علامات يكمن الاسترشاد بها للقطع مع الظواهر الشاذة التي تنتسب للإسلام وهو منها بريء. ولن يكون التصدي لها مثمرا إلا إذا رصدنا مداخلها ومنطلقاتها، وقارعنا الشبهة بالحجة التي تناسبها، وتكشف خطلها واهتزازها.

من صور البدع التي أسالت مداد كثير من العلماء مسألة تعظيم قبور الصالحين والاستعانة بهم، والتكريم المبالغ فيه لبعض المشايخ إلى حد الاعتقاد بعصمتهم. هذه المسألة تدبر الشيخ المُعلّمي اليماني ما تثيره من خلاف في الأمة فاستوقفه مدخل جليل يتعلق بتحقيق معنى التوحيد، أو جوهر الإسلام كما ينبغي أن يدركه المبتدع، ومما جاء فيه قوله:” من تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد، والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا”(1). ويضرب المثل في تحديد معنى الانقياد والالتزام بالحَبرين اللذين سألا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مسائل، فلما أجابهما قالا: نشهد أنك نبي، قال: فما يمنعكما من اتباعي؟ قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود، ولم يَلزمهما بذاك الإسلام. ونظير ذلك شهادة عمه أبي طالب، وقصة هرقل، وغيرهما مما يدل على أن الالتزام شرط لا ينفصل عن المعرفة والإقرار.

ويعقد العلامة اليماني في المصنف ذاته فصلا يحيل على مدخل آخر لفهم تفكير المبتدع ومنطلقاته، وهو المتعلق بتقليد المنسوبين إلى الصلاح والخير بدون أن يكونوا أئمة في العلم. وقد كان الناس في زمن السلف يرجعون إليهم في مسائل الورع والرقائق ومداواة النفوس، بينما يقصدون العلماء في أمور الشريعة. ومرد هذا التقليد برأيه إلى إضفاء العصمة على من يظن به الناس الخير والصلاح، ودفاعهم المستميت عنه، وتبرير أفعاله المخالفة للشرع. فحتى لو قال شاهد عيان أن فلانا يترك الصلاة ويشرب الخمر لقالوا: نعوذ بالله من فساد العقيدة، وحرمان بركة الصالحين. إنما كان سيدي فلان يتستر من الناس لئلا يعلموا منزلته عند الله، أو يختبرهم ليَظهر الموفق من المحروم، واستعانوا بذلك على ما يحكى عنه من الغرائب والخوارق.

وفي الرصيد الهائل من الكرامات والخوارق التي تتضمنها كتب ومصنفات المبتدعة، يلوح مدخل ثالث يهز بنية التفكير السائدة لدى أغلبهم، وهي الاعتقاد بأن كرامة الولي دليل على ثبوت ولايته، وبالتالي ثبوت كل ما جاء عنه بأنه حق وشرع يُتبع. وهذا لا يعني إنكار الكرامات التي يختص الله تعالى بها من يشاء من عباده الصالحين، كما هو مقرر في الشرع، ولا الإعراض عن محبتهم والثناء عليهم بما هم أهل له، وإنما ضرورة التمييز بين ما صح منها، وما اخترعه أتباعهم لدوافع شتى، منها: طلب المال والشهرة للشيخ، والتعصب له على شيخ آخر، وضمان تدفق الأموال والنذور بعد وفاته. وفي المثل الفارسي قول مفاده: المشايخ لا يطيرون، ولكن المريدين يُطيّرونهم!

إن أغلب قصص الكرامات والخوارق تجد سبيلها إلى الذيوع والانتشار بسبب حرص العامة من الناس، وحتى بعض طلبة العلم، على تصديقها دون تردد؛ لأن الشك في أحداثها يساوي عندهم الكفر وفساد العقيدة، والتشكيك في قدرة الله عز وجل. والسبيل إلى الحد من أثرها هو اختبارها بما تُختبر به سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، ومن ذلك، كما يرى أبو إسحاق الشاطبي في (الموافقات)، أن يُنظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد؛ فإن كان لها أصل في كرامات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل فغير صحيحة، وإن بدت للناس على أنها كرامة.

وأما المدخل الرابع لفهم تفكير المبتدع فيحيل على طبيعة الجهد الإنساني الذي تزكيه البدع، والذي ينشأ عنه غالبا تعطيل لحركة الحياة والمجتمع، وتبديد للأوقات بدل تسخيرها لخدمة الدين الحق. وفي حوار معه بعنوان (الأمم لا تقوم بالهمهمة والبطالة)، يحتج الشيخ محمد الغزالي على ما يصفه بالشلل المستغرب في التدين، ويعتبره سببا فيما نعانيه من الطفولة التي تجعل غيرنا يطعمنا، ويداوينا، ويُمدنا بالسلاح إذا شاء. وهذا المسلك لن يكسب الإسلام منه خيرا، ولن تنتصر عقائده إذا ظل أهله في بلاهة الهنود الحمر، بينما أعداؤه يُسخرون مكوك الفضاء.

كما سعى طالب الحديث خلف علو الإسناد، فإن على المسلم أن يسعى خلف علو التأسي. وليس بعد النبي صلى الله عليه وسلم من هو خير من صحابته الذين زكى الوحي أدوارهم وجهودهم في خدمة الرسالة. لذا حين سئل أبوعبد الله المازري، إمام المالكية في عصره، عن قوم يخرجون بعد صلاة العشاء، ليمشوا في الأزقة وهم يسبحون الله بتطريب وتحنين، بيّن رحمه الله أن الصحابة، وهم أعبد الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لم يفعلوه. وقال كلاما نفيسا مفاده: ” إن صحابة رسول الله عليه وسلم هم أعبد ممن يأتي بعدهم، ونقل عنهم بالتواتر أنهم شديدو الحزم في الازدياد من الطاعة، والحمل على النفس من مقاساة القرابات، حتى يخف عليهم إراقة دمائهم وقتل أولادهم وآبائهم في الجهاد في ذات الله ورسوله. فلو كان خيرا ما سبق هؤلاء إليه، فقال تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، وقال (تراهم ركعا سجدا) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). فمن عرف هذا وجب وقوفه عما وقفوا عنه، ويفعل ما فعلوه. وهم كانوا لا يفعلون هذا. ولا يعتقد عاقل أن يقول ما فعلوه تخفيفا على أنفسهم من المشقة، بل هو أخف شيء عليهم لو أرادوه.”(3)


(1) الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي: رفع الاشتباه. ج1 ص21.

(2) ص241.

(3) أبو العباس الونشريسي: المعيار المعرب. ج12 ص362