أرض الله واسعة، وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي كانت بريطانيا تحتل مساحات شاسعة من تلك الأرض، في شمال الأرض وجنوبها وشرقها وغربها، وكان مواطنو بريطانيا يغادرون بلدهم الأصلي، تلك الجزيرة النائية في بحر الشمال، إلى أصقاع مختلفة من العالم، يعملون، ويعيشون، وينجبون، وربما يموتون أيضاً.

 

كان منهم العسكري، والسياسي، والمهندس، والجابي، والجاسوس، والباحث، والمتنزه، والمستكشف، وكان فيهم من يعمل لصالح نفسه، ومن يعمل لصالح وطنه، ومن يعمل للاثنين معاً.

وجون ويليام جونز واحد من تجليات تلك الظاهرة، وإن كان مختلفاً وفريداً.

فقد ولد في لندن أواخر العام ١٧٤٦، وولدت معه موهبةٌ فريدةٌ، هي ذاكرته التي لا يكاد يفلت منها شيء، وبرئ من ذلك الداء الذي قل أن يبرأ منه النابهون: أعني الكسل الذي يحجبهم عن نيل معالي الأمور، بل كان ذا همةٍ عالية وعزيمة لا يقف أمامها شيء؛ لذا لم يواجه الكثير من العناء في دراسته الأولية والثانوية.

يزعم بعض العارفين باللغات أن تعلم خمس لغات أوروبية أيسر على المرء من تعلم اللغة العربية، لكن صاحبنا جونز تعلم العربية على نحو ذاتي وهو بعد في مقتبل العمر، ولم يكتف بالعربية، بل تعلم إضافةً إليها عدة لغات، منها الفرنسية والفارسية والتركية، ودخل جامعة أكسفورد ليخوض رحلة طويلة من التعلم الجاد.

وأخذ صيت جونز يعلو باعتباره نجماً لغوياً موهوباً، حتى إن ملك الدنمارك استعان به ليترجم له سيرة ملك فارس “نادر شاه” من الفارسية إلى الفرنسية.. كان عمره حينها اثنان وعشرون عاماً، وأصدر جونز عدداً من الكتب في لغات أهل المشرق، منها كتاب في نحو اللغة الفارسية، وكتاب فيه قصائد مختارةٌ مترجمة من لغات شرقية متعددة.

كان جونز ذا إرادة لا تعرف المستحيل، ولا تهولها الأمور الهائلة، لذا فكر وقدر، فرأى أن هذه اللغات الشرقية لا تطعمه ما يكفي من الخبز، ووجد أن بوسعه أن يبدأ من جديد، ويدرس اختصاصاً أكاديمباً مختلفاً عن ميدانه المعتاد، يضمن له حياةً كريمةً، ما الضريبة التي يجب دفعها؟ بضع سنوات من الدراسة؟ لا يضير ذلك أبداً، شمّر جونز عن ساعديه، ودرس القانون، وفي الثامنة والعشرين من عمره صار جونز مؤهلاً للعمل في المحاماة.

يجد الكثير من النابهين عنتاً في مواجهة تعدد اهتماماتهم، وتنوع رغباتهم، وكثرة الأبواب التي يمكن أن تفتح لهم بعد القليل من الطرق، وأحياناً دون حاجة إلى طرق الأبواب! وينتقل الواحد منهم من حقل إلى حقل، لا يثبت في مكان بمقدار ما يكفي ليشتد عوده، وهكذا يمضي العمر في مطاردة سراب لا يروي، ويكون الحصاد هشيماً.

أما جونز فلم يكن كذلك، لم ينتقل من اللغات الشرقية إلى القانون، بل انتقل مع اللغات الشرقية إلى القانون، وأفلح في الجمع بين اختصاصه القديم واختصاصه الجديد، وصهرهما في بوتقة واحدة، وذلك من خلال عدد من الإجراءات:

فقد عمل أولاً  على درس القانون في الحضارات الشرقية التي أتقن لغاتها، ومقارنته بالقانون المعمول به في بلده، إذ اهتم على نحو خاص بفقه المواريث لدى المسلمين، ونشر في ذلك بعض الأعمال العلمية: تحقيقاً وترجمةً. وتعلم اللغة السنسكريتية كي يستطيع تأليف كتابه: نظم القانون الهندي، كما أصدر كتابه: المواريث في الشريعة الإسلامية.

وحرص ثانياً أن يمارس عمله القانوني في مكان يتيح له الاستمتاع بحبه الأول: اللغات الشرقية، وقد كان له ما أراد، إذ صار قاضياً في كلكتا، المدينة الهندية التي كانت حينها مستعمرة انغليزية.

ولم يقطع صلته بأدب اللغات الشرقية، إذ عكف على عدد من الدراسات المهمة ونشر عدداً من الأبحاث في هذا الحقل: مثل ترجمة المعلقات السبع، وترجمة لعدد من النصوص الشعوية من لغات عدة: اعربية، والتركية، والفارسية، والعبرية والصينية، وأبدى حرصاً على التعمق في دراسة الأساايب البلاغية لتلك اللغات التي قام بتقديمها للقارئ الناطق بالإنجليزية.

وعمل جونز ثالثاً على تأسيس “جمعية البنغال الآسيوية” الهادفة إلى تشجيع تعلم اللغات الشرقية، وكان لهذه الجمعية فعالياتٌ أفادت علوم اللغويات ثراءً وفتحت آفاقاً جديدة للدرس والبحث سيقتحمها الباحثون في القرون اللاحقة.

كما يحار الكثير من النابهين بين مقتضيات الحياة الضرورية التي يحتاج معها المرء إلى عملٍ يكفل له حياةً كريمة، وقد يحوجه إلى أن يعمل في غير ما يحب، وبين مقتضيات هواياتهم ورغباتهم التي قد لا تسمح الأوضاع المالية، أو لا يسعف الوقت، أو لا تنجد الهمة، لإعطائها حقها من العناية والجهد. أما جونز فقد كانت لديه الهمة الكافية للاستثمار في تخصص جديد، يوفر التمويل اللازم للعطاء في مكال الشغف الذاتي.

وهناك، في كلكتا، وفي دأب غير محدود، وبعزم لا يكل، أخذ جونز يحول معرفته وشغفه إلى إنتاج علمي، فيقارن بين اللغات، ويتركم الشعر من اللغات الشرقية إلى اللاتينية، ويدرس العروض والقوافي في مختلف اللغات..

وتتسع الفكرة، ويضيق الوقت، ويصدر جونز دراسات لا بأسربها، ويطمح أن ينجز المزيد لو امتدت به الحياة.

لكن الحياة لم تمتدّ به، فسرعان ما غادر الحياة الدنيا في السابعة والأربعين من عمره، بمدينة كلكتا، مخلفاً وراءه أحلاماًعظيمة تحققت، وأحلاماً أعظم لم تتحقق، وعبراً كثيرة، لو كان ثمة معتبر.