انتشر في الآونة الأخيرة حديث مكرور عن حكم النتيجة التي يصل إليها المجتهد في الأحكام الشرعية، وأن هذه النتيجة ليست قطعية، وأن قول غيره من المجتهدين ربما يكون أكثر صوابا من اجتهاده، وأن قطع المجتهد بصواب اجتهاده وتخطئة الآخرين، ضرب من الغرور وقلة العلم.

قولي صواب يحتمل الخطأ

والحق أن هذا الكلام حق لا شك فيه، به تصرح كتب أصول الفقه، والأدلة الشرعية دالة عليه تلميحا وتصريحا.

فمما يدل عليه من كلام الفقهاء أنفسهم، قول الشافعي مثلا: “قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب”.

وقول الأصوليين : “- فليس واحد منهما خطأ بيقين.([1])

بل من ضمن تعريفات المجتهد عند الأصوليين : ” استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي” عرفه بذلك من الأصوليين : ابن السبكي، و ابن الحاجب، و البهاري، وابن الهمام ، وابن بدران.([2])

والشاهد في قولهم : ” لتحصيل ظن”.

نتيجة الاجتهاد ملزمة وإن احتملت التخطئة

لكن غير الحق هو  النتيجة التي يُراد  إثباتها بهذا الكلام، وهي أنه بما أن المجتهد يمكنه أن يخطئ الصواب، ولا يصل إلى الحق برغم اجتهاده، فلِم نُصِرُّ على الاجتهاد وسيلة للوصول إلى الحكم الشرعي؟ ولِمَ لا نضيف إليه وسائل أخرى مثل العقل أو البداهة، فإن وصلنا به إلى الصواب كان بها، وإن أخطأناه، فلنا عذرنا مثل المجتهد؟

وماذا لو ثبت يوم القيامة أن المجتهد كان مخطئا؟

وما ذنب أولئك المستفتين الذين قلّدوه، فاتبعوا الباطل ظنا منهم أنه الحق، وتجنبوا الحق ظنًّا منهم أنه الباطل؟

وقد يكون هذا الاتباع في الأبضاع، في النكاح والطلاق، أو يكون في الدماء، أو في الأموال، فيكونون قد سافحوا النساء معتقدين أنه النكاح الذي أحله الله، أو منعوا عن خصومهم أموالا معتقدين أنها ليست لهم، أو تركوا لخصومهم أموالهم معتقدين أنها ليست من حقهم، كيف يرضون خصماءهم يوم القيامة؟ وكيف يعوضون عن حقوقهم التي سلموها لخصومهم باسم الدين؟

والإجابة على هذه التساؤلات من وجوه:

الأول : أن المجتهدين ليس مفروضا عليهم أن يصلوا إلى حكم الله في المسألة، كما أن ذلك ليس ممكنا في كل المسائل، أي أنه ليس مفروضا ولا ممكنا.

ولكن الواجب عليهم أن يجتهدوا ، أي أن يستخدموا أدوات الاجتهاد التي يضطلعون بها للوصول إلى حكم الله تعالى في المسألة، في نهاية البحث سيغلب على ظنهم أن واحدة من النتائج أقوى من النتائج الأخرى، وأنها وحدها أكثر صوابا من الأخريات، وأن الفرضيات الأخرى أبعد من الصواب، وأقرب من الخطأ.

عندئذ يجب عليهم أن يعملوا بهذه الفرضية وحدها دون الفرضيات الأخرى، ليس؛ لأنها حكم الله قطعا، ولكن لأن هذا هو المتاح لهم، وهذا ما توصل إليه أدوات الاجتهاد، ويحرم عليهم أن يعملوا بالفرضيات الأخرى. وهذا القدر محل اتفاق بين الأصوليين في مباحث الاجتهاد.

ومن المقولات الأصولية التي تزخر بها كتب الأصوليين :

1-المجتهدُ مُكلَّفٌ بما أدَّاهُ إليه اجتهادُه .

2- لا يحل للمجتهد أن يقلد مجتهدا آخر فيما يخالف اجتهاده .

3- المجتهد لا يعدل عن اجتهاده إلى اجتهاد غيره .

4- لا يجوز للمجتهد بعد اجتهاده تقليد غيره .

5- المجتهد ليس له أن يحكم بغير اجتهاده.

ولذلك حينما أفتى ابنُ القاسمِ ولدَه بغير ما يدين به من مذهب مالك في  واقعة حلفه المشهورة ، طفق العلماء يتأولون هذا الفعل منه، ويذكرون له أعذارا مسوغة في ذلك حتى يبرئوه من تهمة تتبع الرخص.([3])

ومما يدل على ذلك ما فعله الصحابة عند أمره إياهم بقوله : ”  لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلي؛ لم يرد منا ذلك” [4].

والشاهد أنه لم يعنف أحدا منهم، مع أن هناك احتمالين في هذه الواقعة :

الاحتمال الأول : أن تكون كلتا النتيجتين التي وصل إليها الفريقان ( الإقامة الصلاة في وقتها، وتأخيرها عن وقتها) صوابا.

الاحتمال الثاني: أن تكون النتيجة التي وصل إليها أحد الفريقين خطأ.

وعلى الاحتمال الأول، فالأمر واضح في سبب عدم التعنيف.

وعلى الاحتمال الثاني فسبب عدم تعنيف المخطئين أنهم لم يخطئوا الوسيلة، ولكنهم أخطئوا النتيجة، فالوسيلة هي الاجتهاد، وقد فعلوه، والتزام اجتهادهم وقد التزموه، وليس مفروضا عليهم أن يصلوا إلى النتيجة الصحيحة، فهذا من تكليف ما لا يُطاق، وهو ممتنع بنص القرآن.

والاحتمال الثاني هو الأقرب؛ ولذلك ذكر المحققون أن الراجح فعل الطائفة التي أدت الصلاة في وقتها.

لا يوجد في الاجتهاد خطأ وصواب

الوجه الثاني : أنه لا يوجد في الاجتهاد خطأ وصواب متى صدر الاجتهاد من أهله، وهم المجتهدون الذي حققوا شروط الاجتهاد ومسوغاته، وهذا اتجاه يراه بعض الأصوليين، و يُعرفون بالمصوبة.

فمذهب المصوبة : “أن كل مجتهد مصيب في اجتهاده، وأنَّ كل قول من أقوال المجتهدين فيها حق، وأن كل واحد منهم مصيب”

فحتى على مذهب المصوبة هؤلاء، لا بد من الاجتهاد، فالاجتهاد لا يسقط عن أهله؛ بالرغم أنه لا يوجد حكم معين لله في المسألة عند هذا الاتجاه الأصولي، وكان يمكن أن يقال : ما دام أنه ليس لله حكم معين في المسألة، وأن أي  وجه من الوجوه يعد صائبا! لكنهم لم يقولوا ذلك؛ لأن الذي يبرئ الإنسان من التبعة هو قيامه بالاجتهاد بعد أن يصير أهلا له، أو يسأل من هو أهل له.

وعلى الوجهين، لم يبقَ هناك معنى لهذا للسؤال : وماذا لو ثبت يوم القيامة أن المجتهد كان مخطئا؟

لأن المجتهد مصيب في كل الأحوال متى كان مضطلعا بأدوات الاجتهاد.

تخوف من الاستهانة بالأحكام الفقهية

يتخوف البعض أن نشر هذه المعاني تؤدي إلى الاستهانة بالأحكام الفقهية، وأنها ليست جزءا من الدين!

ونحن نرى أن هذا التخوف ليس في محله؛ لأننا نريد أن يعرف الناس أن الأحكام الفقهية التي وصل إليها المجتهدون، معظمها لا يقطع المجتهدون أنها حكم الله، لكنهم مع ذلك يعلمون أنه يجب العمل بها؛ لأنها تمثل الفرضيات الأكثر صوابا من خلال الاجتهاد بأدواته، وهذا هو الواجب.

بل إن نشر هذه المضامين يحمي المسلمين من اهتزاز الثقة بالدين حينما يتراجع المجتهدون عن بعض اجتهاداتهم لحصول علم جديد أو نحوه من المسوغات المقبولة لتغيير الاجتهاد. فساعتها يعلمون أن اجتهاد الأمس كان واجب الالتزام، واجتهاد اليوم أصبح هو واجب الالتزام.


([1])التقرير والتحبير (3/ 332)

([2]) انظر : الإحكام: 4/ 218.، و2 جمع الجوامع: 2/ 379.، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 2/ 289.، و المنهاج: 3/ 191.، و مسلم الثبوت: 2/ 336.، و التحرير: 4/ 179.، و مرقاة الوصول: 2/ 464.، و المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل: 367.و التلويح “2/117”.

([3]) انظر : البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 381)

[4] – متفق عليه – اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (2/ 217)