من الله تعالى على هذه الأمة ، ببعثة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، كما قال سبحانه : { َلقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ( آل عمران :164).

وأوجز نبينا عليه الصلاة والسلام بعثته بقوله : ” إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ” . وفي رواية : ” صالح الأخلاق ” (رواه البخاري). فكان في شرعه ودينه من الآداب وأسرارها وضوابطها ، ما يغني العباد عما سواه من الشرائع والثقافات والحضارات .

ولا عجب في ذلك ! فهي نورٌ مُنبَعث من مشكاة النبوة ، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } ( النجم : 3-4 ) .

والأدب : هو اجتماع خصال الخير في العبد . ومنه المأدبة : وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس .

وعلم الأدب : هو إصلاح اللسان والخطاب ، وإصابة مواقعه ، وتحسين ألفاظه ، وصيانته من الخطأ والخلل ، وهو شعبة من الأدب العام (1).

فالأدبُ هو الدين كله ، والشريعة بأسرها .

أنواع الأدب

الأدب أنواع ثلاثة أعظمها : الأدب مع الله تعالى ، ثم الأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه ، ثم مع الخلق .

وسئل الحسن البصري عن أنفع الأدب ، فقال: التفقه في الدين ، والزهد في الدنيا ، والمعرفة بما لله عليك .

وقال ابن المبارك رحمه الله : من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السُّنن ، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض , ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة .

وقال بعض السلف : إلزم الأدب ظاهراً وباطناً ، فما أساء أحد الأدب في الظاهر ، إلا عُوقبَ ظاهرا ً، وما أساء أحدٌ الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.

وقال أبو عثمان : إذا صحَّت المحبة ، تأكدت على المحب ملازمة الأدب .

أما أهل الدنيا فأكبر آدابهم : في الفصاحة والبلاغة ، وحفظ العلوم ، والأسمار والأشعار ؟!

أما الأدب مع الله تعالى فهو ثلاثة أنواع (2) :

أحدها: صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة .

الثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره .

الثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه .

قال يحي بن معاذ : من تأدب بأدب الله تعالى ، صار من أهل محبة الله .

وقال ابن المبارك : نحن إلى قليل من الأدب ، أحوج منا إلى كثيرٍ من العلم .

وأعظم الناس أدباً مع ربهم سبحانه ، هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .

قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى : وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله ، وخطابهم وسؤالهم  ، كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به .

أدب المسيح عليه السلام مع ربه عز وجل

قال المسيح عليه السلام  { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}( المائدة: 116) ولم يقل: لم أقله ! وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب . ثم أحال الأمر إلى علمه سبحانه بالحال وسره ، فقال { َتعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} .

ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه ، فقال { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثم أثنى على ربه ، ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها ، فقال{ إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به – وهو محض التوحيد – فقال { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم ، وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم ، وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم ، فقال { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ }، ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم. فقال { وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .

ثم قال { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام .

أي: شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم، وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيداً لغيرك، فإذا عذبتهم – مع كونهم عبيدك – فلولا أنهم عبيدُ سوءٍ من أنجس العبيد وأعتاهم على سيدهم وأعصاهم له : لم تعذبهم، لأن قربة العبودية تستدعي أحسان السيد إلى عبده ورحمته ، فلماذا يعذب أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، وأعظم المحسنين إحساناً عبيده ؟ لولا فرط عُتُوِّهم ، وإباؤهم عن طاعته ، وكمال استحقاقهم للعذاب.

وقد تقدم قوله { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } أي : هم عبادك ، وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم ، فإذا عذبتهم : عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه ، فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه ، فليس في هذا استعطاف لهم ، كما يظنه الجهال .

ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة ، كما تظنه القدرية ، وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله ، وكمال علمه بحالهم ، واستحقاقهم للعذاب.

ثم قال  { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}{ المائدة: 118} ولم يقل { الغفور الرحيم} وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالـى ، فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار ، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة ، بل مقام براءة منهم. فلو قال { فإنك أنت الغفور الرحيم } لأشعر باستعطافه رَبَّه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم ، فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على مَنْ غضب الرب عليهم، فَعَدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته ، إلى ذكر العزة والحكمة ، المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم.

والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم ، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم .

وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه ، ولجهله بمقدار إساءته إليه , والكمال: هو مغفرة القادر العالم ، وهو العزيز الحكيم ، وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب.

ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين في هذا المقام بالأخرى ، كقوله { والله عليم حليم } وقوله { وكان الله عفواً قديراً }.

أدب إبراهيم عليه السلام

وكذلك قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم { الشعراء: 78 – 80} { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) } ولم يقل { وإذا أمرضني } حفظاً للأدب مع الله.

أدب الخضر عليه السلام

وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة { الكهف:79 } { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } ولم يقل { فأراد ربك أن أعيبها} وقال في الغلامين { الكهف:82 } { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا }.

وكذلك قول مؤمني الجن {الجن:10 } { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ }ولم يقولوا { أراده ربهم} ثم قالوا { أَمْ أَرَادَ رَبِهِمْ رَشَداً}.

وألطف من هذا قول موسى عليه السلام { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} {القصص: 24 } ولم يقل : { أطعمني }.

وقول آدم عليه السلام {الأعراف: 23 } { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ولم يقل { رب قدرت علىَّ وقضيت عليَّ } .

وقول أيوب عليه السلام { الأنبياء:83 } { مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ولم يقل { فعافني واشفني }.

وقول يوسف لأبيه وإخوته{ يوسف:100} { هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ } ولم يقل { أخرجني من الجب } حفظاً للأدب مع إخوته ، وتَفَتِّيا عليهم: أن لا يخجلهم بما جرى في الجب .

وقال { وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ } ولم يقل {رفع عنكم جهد الجوع والحاجة } أدباً معهم ، وأضاف ما جرى إلى السبب ، ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه ، فقال { ِمن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } فأعطى الفُتوَّة والكرم والأدب حقه ، وهذا لم يكن كمال هذا الخُلُق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .

ومن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل : أن يستر عورته ، وإن كان خالياً لا يراه أحد ، أدبا مع الله ، على حسب القرب منه ، وتعظيمه وإجلاله ، وشدة الحياء منه ، ومعرفة وقاره .

وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرا وباطناً . فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً ، وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.

وقيل : الأدب في العمل علامة قبول العمل .

قال الإمام ابن القيم : وحقيقة ” الأدب ” استعمال الخلق الجميل، ولهذا كان الأدب: استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل .

فإن الله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد ، التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزناد ، فألهمه ومكنَّه ، وعرفه وأرشده ، وأرسل إليه رسله، وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل .

قال الله تعالى: { الشمس 7 -10 } { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} فعبر عن خلق النفس بالتسوية والدلالة على الاعتدال والتمام ، ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى ، وأن ذلك نالها منه امتحاناً واختباراً ، ثم خص بالفلاح من زكاها فنَّماها وعَلاَّها ، ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبيائه وأوليائه ، وهي التقوى ، ثم حكم بالشقاء على من دساها، فأخفاها وحقرها ، وصغرها وقمعها بالفجور.


1- انظر إعلام الموقعين (2 / 376 ) ، فتح الباري كتاب الأدب ( 10 / 400 ).

2- مدارج السالكين ( 2 / 376 ).