بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية الذي يوافق الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، يؤكد خبراء وأكاديميون أن اللغة العربية تمتلك المرونة والقابلية لاستيعاب تطورات العصر وتحولاته، والاستجابة لكافة التحديات الفكرية والمعرفية والجمالية.
يقول كتاب وخبراء وأكاديميون في الجامعات القطرية أن تعزيز مساهمة اللغة العربية في المشهد العلمي والفكري المعاصر، رهين بتطوير المؤسسات المعنية بالأمر لكوادرها وأدواتها ومنصاتها، لتعزيز المحتوى الرقمي للغة العربية باعتباره ضرورة من ضرورات العصر، لتأكيد حضورنا الفكري والحضاري على شبكة المعلومات.
لغتنا تستوعب متطلبات تعزيز المحتوى الرقمي
ويمثل الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، مناسبة لإلقاء الضوء على جهود الدول والمؤسسات العلمية والأكاديمية في توظيف العالم الرقمي لتعزيز برامجها العلمية والمعرفية والثقافية، حيث قدمت دولة قطر جهودا مشهودة في مجال دعم وتعزيز المحتوى الرقمي العربي، من خلال العديد من المبادرات التي نفذتها في مقدمتها، إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وإطلاق الخطة الوطنية لرقمنة التراث الوطني والثقافي لدولة قطر، وشراكة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع مع منصة “TED” ومبادرتي “فراسة” و”إثراء” لمعهد قطر لبحوث الحوسبة التابع لجامعة حمد بن خليفة، لإحياء اللغة العربية وتشجيع استخدامها في العالم الرقمي، وتحسين تجارب مستخدميها عبر الإنترنت، فضلا عن توفير مكتبة قطر الرقمية مجموعة من المخطوطات العربية النادرة والقيمة على بوابتها الإلكترونية مجانا لكافة المستخدمين والمهتمين بالتراث العربي والإسلامي.
جامعة قطر تواكب عالم الفضاء الرقمي
وفي إطار جهود دولة قطر المتواصلة لتعزيز المحتوى الرقمي للغة العربية على الإنترنت، أطلقت جامعة قطر ثلاثة مقررات رقمية مفتوحة وواسعة النطاق (MOOCS) عبر منصة “إيديكس” (edX) التعليمية العالمية، وهي مقررات، الإنسان في الإسلام، واللغة العربية لغير الناطقين بها، وتاريخ وإرث قطر.
وأوضح الدكتور محمد أبوبكر المصلح، العميد المساعد للشؤون الأكاديمية بكلية الشريعة في جامعة قطر، ورئيس فريق إعداد المقرر الرقمي المفتوح “الإنسان في الإسلام” في تصريح خاص لوكالة الأنباء القطرية “قنا”، أن جامعة قطر في إطار سعيها لمواكبة التطور في عالم الفضاء الرقمي، وضعت استراتيجية للتعليم والتعلم الإلكتروني والتحول الرقمي، لتعزيز المشاركة في هذا المجال، ودمج التعلم الرقمي في نظام التعليم بالجامعة، وإثراء خبرات التعلم من خلال البحث والابتكار في التعلم الرقمي، خاصة بعد الظروف التي فرضتها جائحة كورونا، مشيرا إلى أن الجامعة أنشأت مكتبا خاصا للتعلم الرقمي والتعليم الإلكتروني في سبتمبر 2021.
المصلح: ثلاثة مقررات رقمية للتواصل مع العالم
وحول إطلاق جامعة قطر المجموعة الأولى من المقررات الرقمية المفتوحة، أوضح أن إطلاق المقررات الثلاثة كمجموعة أولى ومجانية، عبر منصة “إيديكس” (edX) التعليمية العالمية، يعد ضمن استراتيجية الجامعة في مد جسور التواصل الثقافي والحضاري بين قطر والعالم والتعريف بالثقافة والهوية والتاريخ والتقاليد القطرية، وأشار إلى أن هذه المجموعة جاءت ضمن اتفاقية أبرمتها الجامعة مع منصة “إيديكس” في يونيو الماضي، وهي واحدة من أكبر منصات التعلم عن بعد في العالم، حيث تطلق مقرراتها بالتعاون مع أكثر من 160 جامعة ومؤسسة تعليمية في 196 دولة، من بينها الآن جامعة قطر.
رحلة استكشافية من منظور إسلامي
ونوه الدكتور محمد أبو بكر المصلح بأن إطلاق هذه المقررات جاء نتاج تعاون بين مكتب التعلم الرقمي والتعليم الإلكتروني بجامعة قطر وكلية الشريعة والدراسات الإسلامية وكلية الآداب والعلوم ومركز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها بالجامعة، موضحا أن مقرر “الإنسان في الإسلام” هو رحلة استكشافية للإنسان من منظور إسلامي، ويطرح المقرر من خلال مقاطع مرئية باللغة العربية مع ترجمة بالإنجليزية، بالإضافة إلى تمارين تكوينية وقراءات إثرائية، فيما يقدم مقرر “اللغة العربية لغير الناطقين بها” مادة تعليمية مرئية تفاعلية حسب المعايير الدولية في تعليم اللغات، أما مقرر “تاريخ وإرث قطر” فيسلط الضوء على التحولات الكبرى في تاريخ دولة قطر منذ مرحلة الاعتماد على تجارة الغوص على اللؤلؤ، وصولا إلى قطر الحديثة وما تبع ذلك من تطورات إلى وقتنا الراهن، بما فيها من ثقافة وتقاليد وجغرافية دولة قطر، وتأثيرها على المستوى العالمي.
عبد الرحمن محمود: نحو إثبات يقين مرونة اللغة
من جانبه، أكد الناقد والأكاديمي الدكتور عبد الرحمن عبد السلام محمود على أهمية تعزيز المحتوى الرقمي للغة العربية، لإثبات يقين مرونة اللغة وقابليتها للاستجابة لشرائط العصرنة والحداثة تاريخيا، وعلميا، وإلكترونيا، واتصاليا، لافتا إلى أن الاكتراث بالمحتوى الرقمي يتعلق بالأساس بمغزى الممكن الحضاري، وبالمعطيات اللغوية العربية التي تتلاءم مع شرائط العصر، ومقتضيات التحديث والتطور من دون تخلف أو انقطاع، وهذا كلام يدحض فرضية تخلف اللغة العربية، فلغتنا قادرة على الحياة، ومقاومة حمى الاستلاب والعدم في سياق العولمة.
وقال إن اللغة العربية هي ذخيرة التاريخ العربي في حركته ومواضعاته السياسية والحضارية، كما أنها ذخيرة الجمالية العربية الفذة في أدبها عامة، وفي شعرها خاصة، من هنا تتعلق اللغة بكينونة الأمة، وتنصهر بأمشاج روحها المتوثبة، كما تتماس اللغة بعقيدة الإسلام دينا، وثقافة.
هاشم ميرغني: حضورنا الرقمي العربي متواضع للغاية
بدوره، أشار الناقد والأكاديمي الدكتور هاشم ميرغني إلى التناقض بين ما وصفه بحضور اللغة العربية وانتشارها الكوكبي حيث يتحدث بها وفقا لآخر الإحصاءات حوالي أربعمائة وسبعة وستين مليون نسمة مما يجعلها خامس أكثر اللغات تحدثا على مستوى العالم بعد الصينية والإسبانية والإنجليزية والهندية، بينما يتحدث بها جزئيا ويتعبد بها في بعض شعائره حوالي مليار ونصف مسلم على النقيض من هذا الحضور، يبدو حضورنا الرقمي العربي متواضعا للغاية إذ لا يتعدى حسب بعض التقارير الرسمية الصادرة عن الأمم المتحدة نسبة 3 بالمائة من إجمالي المحتوى العالمي، كما أن عدد صفحات اللغة العربية على الشبكة الدولية لا يتجاوز الــ 0.01 بالمائة من إجمالي عدد صفحاتها مما يثير عاصفة من الأسئلة حول أسباب هذه المفارقة الغريبة التي يجب مناقشتها على كافة المستويات .
وعزا بعض أسباب هذا الضعف في المحتوى العربي رقميا، بسبب تقليدية المؤسسات القائمة على أمر العربية سواء أكانت حكومية أم أهلية كمجامع اللغة العربية، وأقسام اللغة العربية وكلياتها ومراكزها، وعدم استثمار الطرائق الحديثة في تعليم اللغات مثلما هو الحال في اللغات الغربية، إلى جانب حدة الازدواج اللغوي بين “فصحى” العربية واللهجات الدارجة، مما يتطلب تجسير الهوة بينهما.
ودعا الناقد والأكاديمي الدكتور هاشم ميرغني إلى ضرورة إنفاذ بعض المقترحات وأهمها فتح باب التجديد على مصراعيه بوسائله المعروفة من ارتجال، واشتقاق، وتجوز، وغيرها.
اليوم العالمي للغة العربية قرار تاريخي
جدير بالذكر أن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، في 18 ديسمبر كل عام، جاء تطبيقا للقرار التاريخي للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973 بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة.
وتسلط منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” الضوء سنويا على هذه المناسبة والمساهمات الغزيرة للغة العربية في إثراء التنوع الثقافي واللغوي للإنسانية، فضلا عن مساهمتها في إنتاج المعارف. وقد اختارت اليونسكو هذا العام: مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية، موضوعا للاحتفاء بهذه المناسبة.
وقد أبدعت اللغة العربية حسب اليونسكو، بمختلف أشكالها وأساليبها الشفهية والمكتوبة والفصيحة والعامية، ومختلف خطوطها وفنونها النثرية والشعرية، آيات جمالية رائعة تأسر القلوب وتخلب الألباب في ميادين متنوعة تضم على سبيل المثال لا الحصر الهندسة والشعر والفلسفة والغناء.
ويزخر تاريخ اللغة العربية بالشواهد التي تبين الصلات الكثيرة والوثيقة التي تربطها بعدد من لغات العالم الأخرى، إذ كانت اللغة العربية حافزا إلى إنتاج المعارف ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفة اليونانية والرومانية إلى أوروبا في عصر النهضة.