عرف الأطباء المسلمون الرياضة وأهميتها لحفظ الصحة تقوية البدن ودفع المرض، وكتبوا عنها في مؤلفاتهم الطبية، ولجئوا إليها في علاجاتهم، وتناولوا أنواعها، وفائدتها للأعضاء، وما يناسب الأعمار منها، وتأثير فصول العام المناخية عليها، وتناول المؤرخ “ابن خلدون العلاقة الوثيقة بين الطب والرياضة، وتأثير المكان على ممارسة الإنسان للرياضة أو تخليه عنها، وانعكاس ذلك على صحته، مؤكدا أن غياب الرياضة سببا في كثرة استدعاء الأطباء، واستخدام الأدوية والعلاجات، مقارنا ذلك بين أهل المدن وأهل البادية، فيقول:” الرياضة مفقودة لأهل الأمصار؛ إذ هم في الغالب وادعون ساكنون، لا تأخذ منهم الرياضة شيئاً، ولا تؤثر فيهم أثراً، فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن والأمصار، وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة” أي الصناعة الطبية، ثم تحدث عن عافية أهل البادية التي تُعد من نتائج ممارستهم الحركة الكثيرة والرياضة فيقول: “ثم إن الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة، في ركض الخيل، أو الصيد أو طلب الحاجات، لمهنة أنفسهم في حاجاتهم، فيُحسن بذلك كله الهضم ويجود، ويفقد إدخال الطعام على الطعام، فتكون أمزجتهم أصلح، وأبعد من الأمراض، فتقل حاجتهم إلى الطب، ولهذا لا يوجد الطبيب في البادية”، لذا فهناك رؤية حاضرة في الطب الإسلامي، تربط بين الرياضة والصحة.
الرياضة وقاية ومداواة
تناول الأطباء المسلمون الرياضة، وأنواعها، وما يناسب الأعمار، ومن هؤلاء “علي بن العباس”[1] الشهير بـ”المجوسي” في كتابه “الصناعة الطبية” الذي يعد من أوائل الكتب التي تناولت تلك العلاقة، فأكد على وأهمية الرياضة في حفظ الصحة، وأن منفعتها تتحقق قبل الطعام لأنها تقوي أعضاء الجسم، وتحلل الفضول المتبقى في الأعضاء، كما نصح بعدم ممارسة الرياضة بعد الطعام مباشرة، لئلا ينحدر الطعام إلى الأمعاء قبل أن يُهضم.
أما الطبيب “علي بن رضوان المصري”[2] فكان يُمارس الرياضة، على مدار ثلاثين عاما بلا انقطاع، إدراكا لأهميتها، وكتب وهو في الستين من عمره، قائلا:”وكنت منذ السنة الثانية والثلاثين إلى يومي هذا، أتصرف في كل يوم في صناعتي بمقدار ما يُغني، ومن الرياضة التي تحفظ البدن، وأغتذي بعد الاستراحة من الرياضة غذاء أقصد به حفظ الصحة.”
أما الطبيب العراقي “البلدي”[3] صاحب الكتاب الشهير “تدبير الحبالى والأطفال والصبيان وحفظ صحتهم ومداواة الأمراض العارضة لهم” فتحدث عن رياضة الصبيان والأطفال، وأهميتها في تحقيق الصحة والعافية والنمو، وما هو مناسب منها للأطفال، وما هو غير مناسب، فيقول:” وأصناف الرياضة ثلاثة، وذلك أن الرياضة لما كانت حركة من الحركات، إما أن تكون من أنفسنا، وإما أن تكون من غيرنا، وإما أن تكون بالأدوية، فأما الحركة من غيرنا كحركة ركوب الخيل وركوب السفن والمهود[4] والأسرّة [5] والمراجح وعلى الأيدي فليس جميعاً بموافق لجميع الأبدان في جميع الأوقات، وللذي يحتمله الأطفال من هذه الحركات ما كان منها حركة المهود على الأسرّة وعلى الأيدي وما جانس ذلك، ما داموا أطفالاً”.
لكن الطبيب “البلدي” أشار إلى أهمية أن تمارس الحامل بعض أنواع الرياضات حفاظا على عافيتها وصحة جنينها، وتسهيلا لعملية الولادة، فقال: “وينبغي أن تستعمل (أي المرأة الحامل) من أصناف الحركة والرياضة، ما ينبغي أن تعملها من التردد وبالمشي وحمل الطفل والطحن والغسل والعجن والخبز والغزل وغير ذلك من الأعمال، فإن الحركة والرياضة بالأعمال تُقوي الجسد، وتنمي الحرارة الغريزية، وتخفف الفضول عن الجسم وتخرجها، وتُعين المعدة على الهضم، وحركة الأيدي أوفق لها من غيرها “.
وتطرق الأطباء المسلمون الرياضة لمسألة الارتباط بين رياضة المشي وتحقيق الصحة والعافية، ودفع الأمراض والشيخوخة، فتناولها الكثير ، منهم “أبو زيد أحمد بن سهل البلخي” المتوفى (322هـ=943م) في كتابه “مصالح الأبدان والأنفس” ومما قاله:”إن ما تلزم الحاجة إليه في حفظ الصحة، استعمال حركة المشي والركوب، بقدر واعتدال، فإنها تقوم –عند الحاجة إليها-مقام أشرف العلاجات وأكثرها نفعا” وهو ما يتفق مع ذكره “ابن سينا” في كتابه “القانون” من أن المشي من مسكنات الأوجاع، فيقول: “ومن مسكنات الأوجاع المشي الرقيق الطويل الزمان”، وفي دراسة عن “الرياضة الطبية في التراث الإسلامي”[6] حديث عن استخدام التمارين الرياضة كعلاجات طبية، أو ما يمكن تسميته بـ”الطب الرياضي”.
الرياضة بين “ابن سينا” و”ابن هبل“
من الأطباء الكبار في الحضارة الإسلامية الذين كتبوا العلاقة بين الرياضة والطب، “ابن سينا” المتوفى (427هـ=1037م) في كتابه “القانون”، وفي دراسته “التربية الرياضية في فكر الفيلسوف ابن سينا” تحدث الدكتور “إسماعيل خليل إبراهيم”[7]، فذكر أن “ابن سينا” تناول حركات الطفل ورياضته، ورياضة الصبيان، وأنواع الرياضة، والآثار الخلقية والاجتماعية التي يكتسبها ممارسوها، فضلا عن الجوانب الصحية والمهارية والمعرفية، ومما تحدث عنه “الرياضة اللطيفة” وهي الألعاب التي لا تحتاج إلا إلى جهد بسيط، وتبتعد عن العنف والالتحام، وتُدخل على النفوس المتعة والبهجة، وكأن “ابن سينا” يتحدث عن مداواة الروح والنفس من خلال الالتزام ببعض الرياضات الخفيفة المسلية.
وفيما يتعلق برياضة الصبيان والأطفال دعا “ابن سينا” إلى أن يتنقل الطفل بين أكثر من رياضة ولا يقيم على رياضة واحدة تحقيقا لمنفعته، ونمو مهاراته وقدراته، وكان يرى أن لكل عمر رياضته الخاصة به والقادرة على نفعه وإفادته، فيقول:”وإن لكل فرد رياضة تتفق مع حاله، فللبدن الضعيف رياضة ضعيفة، وللبدن القوي رياضة قوية، واعلم أن لكل عضو في نفسه رياضة تخصه “.
بحث الأطباء المسلمون للرياضة استمر مع الطبيب “ابن هبل”[8] البغدادي، فكان من أشهر من تحدث عن الرياضة وعلاقتها بالطب، في كتابه “المختار في الطب“، فيقول:” الرياضة ركن من أركان حفظ الصحة، إذا أصيب منها المقدار المعتدل، ومُغنية عن كثير من الأدوية، والرياضة المعتدلة تحلل فضل كل طعام يتقدم، وتُسيله وتُهيئه للخروج من مسالكه، وتُنعش الحرارة الغريزية، وتُعد الأبدان لقبول الأغذية، وتُصلب المفاصل وتُقوي الأعصاب”.
وتناول “ابن هبل” الرياضة المقصودة وغير المقصودة، أي الرياضة التي يمارسها الناس من خلال حركتهم الدؤوبة في الحياة وتُعد نافعة، أو الرياضة المقصودة التي يمارسها الشخص عن قصد، عارفا بمنافعها وقواعدها، لكن المهم الذي تحدث عنه هو تحديد الرياضات[9] التي يحتاج إليها بعض أعضاء الجسم، وفوائدها الصحية.
الطريف أن “ابن هبل” تحدث عن أهمية ممارسة الشباب للرياضة، كما تحدث عن الرياضات المناسبة للأعمار المختلفة، فقال:”أما الشبان فيجب أن يزيدوا في الرياضة، فإن الفضول تزيد في أبدانهم لقلة نموهم، فإن كانوا أصحاب رياضات قوية فيتعاهدوا لين أبدانهم بالدلك، وأما الكهول فيجب أن يكونوا في مواضع معتدلة الهواء وأن يقللوا من الكد والتعب، وأما الشيوخ فيدبرون تدبيراً رفيقاً كتدبير الأطفال، ويُمنعوا الكد والتعب، وتكون رياضتهم، إن كانوا أقوياء بالمشي الرفيق، وإن كانوا ضعفاء بالركوب”، وتناول “ابن هبل” الأوقات والفصول التي يحسن فيها التريض، فذكر أن الوقت الصالح للرياضة يختلف من فصل لآخر من فصول السنة، أو حتى خلال اليوم نفسه، فيقول”أما الوقت الذي يجب أن يرتاض فيه الإنسان-من يومه- فهو بعد انهضام الطعام المتقدم، وبعد انتباهه من نومه، وقرب ما يريد أن يجوع، لأنها قبل الطعام نافعة، ومُعدة للبدن لقبوله، وهي حافظة للصحة، وبعد الطعام مضرة لأنها تجذب المواد غير منهضمة إلى الأعضاء، فتورث السدد والغلظ في الأحشاء”.
وفي دراسة للأستاذ “ناجي محفوظ” [10] حديث مستفيض عن رؤية “ابن هبل” لدور الرياضة في المحافظة على الصحة، وأنواع الرياضة، وكيفية الانتفاع بها، فيقول:”وتبلغ الرياضة من تحليلها ما يبلغ بالدواء، لأن القوة الطبيعية تميز ما تستفرغه بالرياضة تمييزا لا يمنعها ويجحفها مانع، وفي الدواء تجد بعض المضادة والأذى، فتذهل عن تمييز الرديء من الجيد، فتدفع الجيد والرديء لدفعها أذى الدواء”.
[1] علي بن العباس: طبيب بارع في علاج الأمراض المتوطنة والمستعصية، ولد في منطقة الأهواز ، وتوفي عام (400هـ=1010م)، وقيل توفي قبل ذلك بست سنوات، وصنف “الملكي” وهو من الكتب المهمة في الطب، وهو الكتاب المشهور بـ”كامل الصناعة الطبية الضرورية”.
[2] هو أبو الحسن علي بن رضوان المصري من كبار الأطباء وعلماء الفلك والفلاسفة في الدولة الفاطمية، توفي (453 هـ= 1061م ) وله قرابة المائة كتاب ورسالة في الطب.
[3] هو أحمد بن محمد بن يحيى البلدي، توفي حوالي (368هـ=978م)
[4] المهود: مفردها مهد
[5] الأسرة: مفردها سرير
[6] الدراسة للدكتور محمود الحاج قاسم، والدكتور “عمر عزيز جواد”، ونشرت في مجلة المجمع العلمي العراقي-الجزء الثاني-المجلد التاسع والخمسون-عام 2012
[7] نشرت الدراسة في مجلة “علوم التربية” العراقية- المجلد السابع-العدد الثالث –عام 2014
[8] “ابن هبل” هو علي بن أحمد بن علي بن عبد المنعم طبيب عراقي توفي (610هـ=1213م) ومن أشهر كتبه “المختار في الطب”
[9] ومما قاله عن أنواع الرياضات:”وأنواعها كثيرة (أي الرياضة) تختلف بالشدة والضعف والقلة والكثرة والسرعة والبطء وبحسب العضو المرتاض ؛كحركة اليدين والرجلين، أوالتنفس أو حركة جميع البدن ، كالمصارعة، والمباطشة، وهي أنواع ، وكالعدوي والمشي السريع والحجل على الرجل الواحدة، والمثاقفة بالشطب والسيف، ولعب الرمح، وركوب الخيل، واللعب بالكرة راجلاً وفارساً، واللعب بالطبطاب، وقفز الغزال، والقفز إلى فوق، والترجح بالأراجيح، والقعود في المهود والكجاوات، وإشالة الحجر والمقيرات، وجذب الشيء، والمشابكة، والمراكزة، والدوران، والرقص، والملاطمة والملاكمة، والمصادمة..”.