يُعدّ القرآن الكريم المعجزة الخالدة التي تحدّى الله بها الإنس والجن، ولا يزال العلماء والباحثون يغوصون في أعماقه لاستخراج كنوزه ودرره. وقد كان التدبر أحد أهم الوسائل التي تعين على كشف وجوه الإعجاز البياني والبلاغي فيه، إذ إنه أداة للتأمل العميق في معانيه واستنباط دلالاته وأسراره.
وفي إطار إبراز أهمية التدبر ودوره في فهم المعجزة القرآنية، نظم معهد الدعوة بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر ندوة المسار المعرفي للخطباء والتي جاءت بعنوان “التدبر يقدم المعجزة القرآنية” يوم الإثنين 24 فبراير 2025م ، وشارك فيها كل من الأستاذ الدكتور عبد الله الهتاري أستاذ البلاغة والبيان القرآن بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وله عدة بحوث ومؤلفات مميزة حول البيان القرآني وإعجازه، والأستاذ الدكتور عبد السلام المجيدي أستاذ قسم القرآن والسنة بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر وله عدة بحوث ومؤلفات مميزة في التفسير وعلومه، وهما من كبار المتخصصين في الدراسات القرآنية والبلاغية.
تناولت الندوة عدة محاور تتعلق بأهمية التدبر، وعلاقته بالتفسير والاستنباط، ووجوه الإعجاز التي يكشفها التدبر في القرآن الكريم. في هذا التقرير، نستعرض أبرز ما جاء في هذه الندوة، مع تمييز واضح بين مداخلة كلٍّ من الدكتور عبد الله الهتاري والدكتور عبد السلام المجيدي.
التدبر: مفهومه وأهميته
استهل الدكتور عبد الله الهتاري حديثه بتوضيح مفهوم التدبر، موضحًا أنه يعني النظر في أدبار الشيء والتأمل في عواقبه ومآلاته. وقد استخدم هذا المفهوم في كل تفكر وتأمل يقوم به الإنسان لفهم حقيقة الأشياء وأجزائها وسياقاتها.
أما في سياق القرآن الكريم، فقد عرّفه بعض العلماء – ومنهم صاحب تفسير المنار – بأنه النظر والتفكر في مقاصد القرآن وغاياته، وعاقبة من يعمل به ومن يخالفه. وقد جاءت كلمة “تدبر” في صيغة “تفعُّل”، مما يدل على أنها تتطلب بذل الجهد والمعاناة في التفكر حتى يصل الإنسان إلى الفهم العميق لمقاصد الآيات.
التدبر هو علة إنزال القرآن
أكد الدكتور الهتاري أن التدبر هو السبب الأساسي لإنزال القرآن الكريم، مستشهدًا بقول الله تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29).
وأوضح أن اللام في “ليتدبروا” تفيد التعليل، أي أن الغرض الأساسي من نزول القرآن هو التدبر، وليس مجرد التلاوة أو الحفظ. كما أشار إلى أن القرآن استخدم “يدبروا” بدلًا من “يتدبروا” للإشارة إلى ضرورة الإسراع في التدبر وعدم التأخير في استخلاص الهدايات والمعاني من الآيات.
علاقة التدبر بالتفسير والاستنباط
بيّن الدكتور الهتاري أن هناك علاقة وثيقة بين التدبر والتفسير والاستنباط، حيث أن:
- التفسير هو بيان معاني الآيات وكشف دلالاتها الظاهرة.
- التدبر هو النظر في العواقب والغايات التي يقود إليها النص القرآني.
- الاستنباط هو استخراج المعاني الدقيقة والأحكام الخفية من القرآن.
وأضاف أن التدبر أعمّ وأشمل من الاستنباط، فهو يشمل العلماء والعامة، أما الاستنباط فهو خاص بالعلماء الراسخين في العلم، كما في قوله تعالى: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (النساء: 83).
ثمرات التدبر في القرآن
حدد الدكتور الهتاري عدة فوائد وثمرات للتدبر، منها:
- التأثر القلبي والعمل بالقرآن، إذ إن التدبر يؤدي إلى الامتثال للأوامر القرآنية واجتناب نواهيه.
- الجمع بين قراءة الوحي وقراءة الكون، فالقرآن يربط بين التأمل في آيات الله الكونية وآياته الشرعية.
- تحقيق الشهود الحضاري، حيث أن الأمة المسلمة مطالبة بأن تكون أمة شاهدة على الأمم الأخرى.
- الإعجاز النفسي في القرآن، حيث يؤثر القرآن في القلوب والعقول بطريقة فريدة من نوعها.
أنواع التدبر
ذكر الدكتور الهتاري أن التدبر له أنواع متعددة، منها:
- التدبر البياني: دراسة التراكيب القرآنية وأسلوبها البلاغي.
- التدبر التنزيلي: فهم سياق نزول الآيات وربطها بأسباب النزول.
- التدبر المقاصدي: البحث في مقاصد القرآن الكبرى.
- تدبر التزكية: السعي لإصلاح النفس من خلال القرآن.
وضرب أمثلة عديدة على ذلك، مثل استخدام الباء في قوله تعالى: { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8) لإفادة نفي الإيمان بالكلية، واستخدام “عن” في قوله تعالى: { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} للإشارة إلى الإعراض عن الصلاة، وليس مجرد السهو العارض.
التدبر من خلال الأسئلة التأملية
افتتح الدكتور عبد السلام المجيدي حديثه بطرح ثلاثة أسئلة تأملية من القرآن الكريم، ودعا الحاضرين للتفكر فيها:
- لماذا ذُكرت آية الصفا والمروة في موضع منفصل عن بقية آيات الحج؟ جاءت هذه الآية قبل آيات الحج لأنها تتعلق بملة إبراهيم، وهي جزء من الهوية الإسلامية الجديدة التي ركزت عليها سورة البقرة.
- لماذا ورد ذكر نشوز النساء في موضع مختلف عن نشوز الرجال؟ ذُكر نشوز النساء في سياق استقرار الأسرة، بينما ذُكر نشوز الرجال في سياق القضاء، لأن معالجتهما تختلف في طبيعة الحلول المطروحة.
- كيف يكون الذين يهدون بالحق من بني إسرائيل هم أنفسهم الذين بدّلوا كلام الله؟ الواو في “وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا” ليست عاطفة، بل تفيد الاستئناف، مما يعني أن الفئة الهادية كانت موجودة بين بني إسرائيل، لكنها ليست هي نفسها الفئة التي بدّلت.
تسوير السورة القرآنية: إعجاز متجدد
قال الدكتور عبدالسلام المجيدي إن من بين المجالات البحثية الحديثة التي تكشف عن الإعجاز القرآني المتجدد “علم تسوير السور القرآنية”، وهو مجال يهدف إلى استكشاف التناسق البنيوي والموضوعي داخل كل سورة من سور القرآن الكريم.
ومن أجل توضيح مفهوم التسوير القرآني، أجرى الدكتور عبد السلام المجيدي دراسة تطبيقية على سورة النساء، حيث قدم من خلال بحثه منهجية جديدة لتفسير النصوص القرآنية عبر فهم الترابط الداخلي بين الآيات والمحاور التي تشكل البناء المتكامل لكل سورة.
مفهوم التسوير في سورة النساء
أكد الدكتور المجيدي أن ترتيب الآيات ليس عشوائيًا، بل يتبع نظامًا دقيقًا يعكس الإحكام الإلهي. ووفقًا للدراسة التطبيقية على سورة النساء، فإن التسوير يبرز عدة نتائج رئيسية:
- العمود الموضوعي لسورة النساء هو: تنظيم الحياة الإنسانية وفق منهج إلهي يضمن العدل وحماية المستضعفين، وخاصة النساء والأطفال، من أي نوع من أنواع الظلم أو الاضطهاد.
- التسوير يظهر التناسق الرقمي والدلالي بين أجزاء السورة، حيث تتبع الآيات نظامًا يجعل كل جزء يدعم الآخر في بناء متكامل.
- العلاقة بين بداية السورة ونهايتها تؤكد على وحدة الموضوع، حيث تبدأ السورة بالحديث عن نشأة الإنسان وحقوقه، وتنتهي بالتأكيد على أهمية العدل الإلهي.
- سورة النساء تقدم نموذجًا تشريعيًا شاملًا يمكن اعتباره “هدية إسلامية للعالم في مجال حقوق الإنسان”، حيث تتضمن قوانين لحماية حقوق المرأة، والأيتام، والمجتمع بشكل عام.
- التسوير لا يقتصر على البلاغة والبيان، بل يتجاوزهما ليشمل نوعًا من التناسق البنائي والهندسي الذي يظهر الترابط بين الآيات بطريقة منطقية متماسكة.
الفرق بين علم التسوير وعلم الوحدة الموضوعية
أشار الدكتور المجيدي توصله من خلال البحث إلى العلاقة التداخلية بين علم تسوير السورة وعلم الوحدة الموضوعية، مع وجود فوارق جوهرية بينهما منها :
- علم الوحدة الموضوعية يركز على تحديد الموضوع العام للسورة بشكل شمولي، دون الدخول في تفاصيل ترابط المحاور والآيات داخليًا.
- أما علم التسوير، فيبحث في البناء الداخلي للسورة، ويحدد كيف تتشكل المحاور من مجموعات آيات، وكيف يرتبط العمود الموضوعي لها بجميع أجزائها.
الصلة بين علم التسوير وعلم المناسبات
حول تداخل علم التسوير مع علم المناسبات، شرح الدكتور المجيدي كيف يسعى كلاهما إلى تفسير العلاقات بين الآيات داخل السورة. غير أن التسوير يتجاوز المناسبات ليبحث في البناء الكلي للسورة، من حيث:
- علم المناسبات يركز على تفسير العلاقة بين آيتين متجاورتين.
- أما التسوير، فيهدف إلى كشف الهيكل العام للسورة، وربط بدايتها بنهايتها، وإظهار كيفية تشكل محاورها الكبرى.
الإعجاز اللفظي والمعنوي في التسوير
أوضح الدكتور المجيدي أن التسوير ليس مجرد ترتيب عشوائي للآيات، بل هو نظام متكامل يظهر الإعجاز من جوانب مختلفة:
- الإعجاز اللفظي: يتمثل في دقة اختيار الكلمات وربطها بالسياق العام للسورة.
- الإعجاز الرقمي: حيث تظهر بعض الأنماط الرقمية التي تعكس بناءً هندسيًا متناسقًا داخل السورة.
- الإعجاز المعنوي: يظهر من خلال وحدة الموضوع وترابط المحاور الداخلية التي تجعل كل سورة متكاملة من حيث الرسالة والمقصد.
تطبيق علم التسوير على سورة النساء
بعد تحليل الدكتور المجيدي لسورة النساء وفق علم التسوير، قسمها إلى محاور رئيسة تحدد إطارها العام:
- البداية بحقوق الإنسان في الإسلام: تتحدث الآيات الأولى عن خلق الإنسان من نفس واحدة، وعن أهمية صلة الرحم، مما يشير إلى أصل العدالة الاجتماعية.
- التشريعات الأسرية والحقوقية: تشمل أحكام الميراث، والزواج، وحماية المرأة، وهي جوهر السورة.
- تنظيم العلاقات في المجتمع الإسلامي: يتناول النص القرآني القضايا المتعلقة بالعدالة، وحفظ الحقوق، ومنع الظلم، وهو ما يبرز كهدف رئيسي للسورة.
- الخاتمة بأهمية العدل والجزاء الإلهي: تنتهي السورة بالتأكيد على مبدأ العدل الإلهي، وإثبات الثواب والعقاب، مما يعزز رسالتها الرئيسية.
الخاتمة
أظهرت هذه الندوة كيف يكون التدبر مفتاحًا لفهم الإعجاز القرآني، سواء من الناحية البيانية أو التشريعية أو النفسية. وقد أكّد الدكتور عبد الله الهتاري على أهمية التدبر في كشف بلاغة القرآن وأسراره، بينما قدم الدكتور عبد السلام المجيدي نماذج عملية للتدبر الكلي وكيف يمكن اعتبار تسوير السورة القرآنية أحد الأدلة الحديثة على الإعجاز المتجدد في القرآن الكريم.
ويبقى التدبر وسيلة عظيمة لفهم القرآن وتطبيقه، وهو ما ينبغي على المسلمين الحرص عليه في حياتهم اليومية.