كلما فكرت في موقف الإسلام من الحرية صدمتني أقوال بعض المفكرين المسلمين الذين يرون أن الحرية فرية غربية وليبرالية انحرافية لا أصل لها في الإسلام ولا تتفق مع روح الدين ويلوحون في وجهك بآية { وما خلقت الأنس والجن إلا ليعبدون} (الذاريات : 56 ) ليؤكدون على عبودية الخلق لله وأنهم لا حرية لهم.
لكنني كنت دوما أتساءل : هل يعقل أن يهين الخالق سبحانه ويذل ذات المخلوق الذي سواه ونفخ فيه من روحه، وفضله على سائر مخلوقاته. هل يعقل أن يجرد الله سبحانه وتعالي الإنسان من حريته وارادته. بل أيهما أسلم أن يؤمن المرء بالله عن قناعة ورضي أم يكره على ذلك إكراها مثل السموات والأرض. إن حمل الأمانة التي أودعها الله الإنسان بقوله { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منه وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً } (الأحزاب : 72 ) تحتاج إلى قوة وإرادة وحرية واختيار. ما كان الله سبحانه ليحمل الإنسان كل هذه المسؤولية دون أن يعينه عليها بالحرية والإرادة.
وهذا ما فعله الله الرؤوف الرحيم. تدبر آيات التكريم: { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } ( الإسراء : 70 ) حينما تتأمل في هذه الآيات تجد أن أسمى مقامات هذا التكريم هو العقل الذي لم يتكرم به الله على غير الإنسان. والعقل هو مناط الحرية في أعلي درجاتها إذ من خلاله يتدبر الإنسان ويتفكر في ملكوت السموات والأرض وفي تكوينه {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات : 21 ) فيقوده ذلك لمعرفة خالقه فيخضع له راضيا سعيدا مؤمنا بكامل ارادته وحريته لا ذليلا مكرها كالسموات والأرض وسائر المخلوقات الأخرى.
وقفت كثيرا عند هذه الآيات وتجلت لي عظمة الله ورحمته في أجل صورها من خلال إنعامه على الإنسان بالحرية والعقل والإرادة. ولتأكيد أن العقل هو أسمى نعم الله على الإنسان زوده الله بمقومات هذا العقل،كما جاء في قوله سبحانه: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} (النحل : 78 ) فالسمع والبصر والفؤاد-القلب- هي مقومات الوعي وركائز العقل.
والله سبحانه وتعالي أنعم على الإنسان بهذه المقومات لينطلق في هذا الكون الفسيح متفكرا فيما حوله مثل طائر حر طليق يبني ويعمر ليحقق خلافة الله في الأرض . والإنسان لن يعمر بحق إلا إذا كان حرا طليقا، واعيا عاقلا، عالما بما يفعل لا متبعا أعمي. ولذا حذره الله سبحانه { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} ( الإسراء : 36 ) فالله يحذر الإنسان من أن يكون تابعا بغير علم لأنه سيكون مسوؤلا عن ذلك . فالإنسان عليه استخدام سمعه وبصره وفؤاده ليصل إلى الحقيقة عن علم لا أن يكون تابعا، خاضعا ذليلا، تابعا لغيره.
وحتى يكون الإنسان عليما لا تابعا أعمي زاده الله شرفا وعزة وتمييزا بنعمة أخري، هي العلم ، ميزه بها حتي علي ملائكته الذين يسبحونه ليلا ونهارا لا يفترون. والعلم نعمة عظمي تحدي بها الله ملائكته ليثبت تفوق الإنسان على سائر المخلوقات. { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فقال أنبئوني بأسماء هؤلا إن كنتم تعلمون . قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} ( البقرة : 31 -33 ).
فحينما أراد الله سبحانه وتعالي لمخلوقه المدلل أن يهبط للأرض ليعمرها زوده بالعلم والعقل ومقوماته من سمع وبصر وفؤاد وأعطاه حرية استخدام هذه النعم { إما شاكرا وإما كفورا} (الإنسان : 3) ليسائله يوم القيامة. وما كان الله ليسائله ويحاكمه لولا أنه أعطاه كامل الحرية في استخدام نعمه حتي وإن طغي وتكبر لأن لكل شئ ميعاد { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى} ( طه : 1298 ) ليس ذلك فحسب حتى الحساب يوم القيامة لا يكون إفتراءً و قهرا وإنما برهانا ودليلا : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا} ( الإسراء : 13 ) وهذه قمة الحرية.
وتتجلى الحرية التي وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان في أسمى معانيها من خلال موقف الخالق سبحانه من عصيان إبليس له عندما أمره بالسجود لآدم، هذا المخلوق المكرم المنعم بآجل النعم، فأبى وتكبر، حينما أستكبر إبليس وطغى لم يهلكه الله سبحانه وهو القادر على ذلك، لكن تحداه بعدم قدرته على إغواء عباده الصالحين الذي أكرمهم بالعلم والعقل وحرية الإرادة فإذا استخدموها بحقها فلن يجد إبليس إليهم سبيلا. ومن هنا فإن الصراع بين الإنسان والشيطان على الأرض هو صراع بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين الحرية والقهر والإذلال وبين العلم والجهل.
وتجلت الحرية التي وهبها الله سبحانه للإنسان في استخدام سيدنا إبراهيم عليه السلام عقله للوصول إلى حقيقة خالقه قال تعالي { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الأفلين. فلما رأى القمر بازغا ، قال هذا ربي ، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون. إنى وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين} (الأنعام : 75 – 79 ) ولم يكتف إبراهيم بهذه الآيات البينات للدلالة على ربه وإنما طلب برهانا أكثر قوة فطلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى فأجابه الله على ذلك بمنتهى الحرية ولم يقل له أنت مخلوق عليك أن تؤمن وكفى { قال ربي أرني كيف تحيي الموتي، قال أولم تؤمن، قال بلي ولكن ليطمئن قلبي} ( البقرة : 260) كان طلب إبراهيم عليه السلام إعمالا للعقل حتى يقف بما له به علم لا بما ليس به علم وليكون السمع والبصر والفؤاد شاهدا على ذلك.
إن حوار الله مع إبليس وحوار إبراهيم مع ربه، بل وحوار موسى عليه السلام وتكليم الله له ،ليعبران أصدق تعبير عن الحرية التي وهبها الله لخلقه في أسمى وأجل صورها. فإذا كان الله لم يقهر الإنسان بل منحه كامل الحرية فلماذا يسعي بعض البشر لحرمان الإنسان حريته ؟!
ومن هنا فإن الإنسان مطالب بالحرص على حريته التي أكرمه الله بها والدفاع عنها مهما كلفه ذلك لان الانتصار للحرية انتصار للدين وتحقيق لعدل الله الذي كرم به خلقه حينما وهبهم العقل والعلم. ومن ثم فإن أي دعوة لقهر الإنسان مهما كان دافعها فإنها دعوة لتغيير مراد خلق الله للإنسان. وإن السلم والاستقرار لا يتحققان إلا بالمحافظة على هذه الحرية والعض عليها بالنواجذ.
وليعلم أهل السلطان والطغيان وفقهاء السلطان الذين يطالبون الناس بالخضوع مهما كان نوع الظلم الواقع عليهم بأن الله حذر عن الأكراه في الدين فكيف بالإكراه في الحكم. يقول الله سبحانه وتعالي { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} ويحذر نبيه حتي من إكراه الناس على عبادته سبحانه وتعالي بالإكراه { أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين} وهناك من يرى أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يشهر سيفا أو يأمر بقتال من رفض الإسلام ولكنه قاتل الذين وقفوا في سبيل دعوة الله بأموالهم وأنفسهم أو الذين خانوا العهد من اليهود والمشركين.
ومن هنا فإنه إذا كان الله سبحانه يحذر من إكراه الناس على الدخول في الدين فالأولى أن لا يكره الناس على حاكم أو حكم لا يريدونه. بل الأسلم أن تتم رعاية الناس وحكمهم بإقامة العدل وتحقيق المساواة وإحقاق الحق ومحاربة الفساد ومنعه وإلا كان ذلك إفسادا في الأرض عاقبته جهنم وبئس المهاد، إذ يقول الله تعالى { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولي سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد} ( البقرة : 204 – 206) و من أقدر على إهلاك الحرث والنسل إلا أهل الحكم والسلطان.
إن ولاية أمر الناس إنما تكون بالقبول والرضا فإن انتفى ذلك فإنه الإكراه الذي حذر الله منه. ومن ثم فإنه لا يحق لمسلم أن يتولي أمر الناس دون رضاهم. وعلى عامة الناس ، أو عقلائهم، أن يختاروا الوسيلة التي تحقق الحكم بالرضا والقبول، خلافة كانت ، ديمقراطية برلمانية كانت ، شورية كانت أو ما يتفقون عليه بوسيلة تضمن أن يدلي كل عاقل بدلوه ورأيه دون حجر ولا وصاية. إن وسائل الاتصال الحديثة ما هي في رأيي إلا نعمة من نعم الله لتأطير هذه الحرية وتسهيل أمر اختيار الناس لمن يتولي أمرهم طوعا واختيارا.
ليس في ما ذكرنا أعلاه دعوة للشعوب المسلمة أن تثور على حكامها وولاتها ولكنها محاولة لتأصيل مفهوم الحرية في الإسلام حتي وإن لم يرد ذكر اسم الحرية صراحة في القرآن والحديث. فالحرية كما بدت لنا هي إعمال العقل وهي الإرادة التي وهبها الله سبحانه لخلقه ليقرروا من خلالها أي سبيل يسلكون سبيل الهدي أم الضلالة. والحرية في كنف الإنسان، كما بين الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد، تماثل ذلك الطائر المحلق في جو السماء ما يمسكه إلا الله. فالطائر يطير حرا طليقا بقدرة الله وهكذا الإنسان في هذه الحياة الدنيا يكون حرا طليقا لا يقيده إلا تقوى الله وهدايته.
إن دعوتنا هذه دعوة لتأصيل مفهوم الحرية أمام أولئك الذين يريدون تجريد الإنسان المسلم من حريته التي وهبها الله له بدعوى أن الحرية كما يمارسها الغربيون ما هي إلا فساد وإفساد وإباحية محضة. لكن هل يعني انحراف الإنسان الغربي عن الحرية الصحيحة حرمان غيره منها. بل هناك من يدعي أن المسلمين غير أكفاء لتطبيق الحرية لأن معظمهم غير متعلم و لا يعرف معنى الحرية. إن تعليم الناس هو واجب ديني على الحكام وأهل الشأن القيام به حتي لا يبقى بين المسلمين جاهل. وجهل الناس ليس حجة يتم بها حرمانهم من أهم حقوقهم التي وهبها الله لهم. بل إن تعليم الناس كيف يمارسون الحرية وتطبيقها في كافة شؤون حياتهم لجدير بخلق مجتمع مثالي مستقر وتحقيق مجتمع السلم الذي بشر به الله سبحانه.
إن دعوتنا هذه ليس دعوة للثورة لكنها دعوة للمطالبة بحق أصيل لأن فيه إعزاز المسلم وتكريمه في الدنيا مثلما كرمه الله يوم خلقه وسواه. كما يجب أن يعلم بأن في مطالبة الناس بحريتهم إذا نهبت منهم ليس خروج على الطاعة ذلك أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فوفقا لشرائع الدين فإن كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه. ومن ثم فإنه إذا ثار المسلم مطالبا بالحرية فليس في ذلك خروج على الدين لأنه إنما يطالب بحقه الذي كفله الدين في الحياة الكريمة و لا كرامة إلا مع الحرية. كما أن الله يطالبه بأن ينتصر لنفسه إذا ما أصابه الظلم قائلا سبحانه: { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون . والذين أذا أصابهم البغي هم ينتصرون} وما البغي إلا الظلم بكافة أنواعه. بل أنه سبحانه يؤكد على : { ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل .إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم} (سورة الشورى: 38-42) فالله لم يتوعد المظلوم إذا طالب بحقه وإنما توعد الظالم. ولقد فسر الفقهاء هذه الآيات على أنها آيات فردية تختص بحق المسلم الفرد وتناسوا أن الحق عام وأن الفرد ما هو إلا رمز للجماعة. كما أنه ليس عبثا أن يتحدث الله سبحانه عن الظلم مباشرة بعد الحديث عن إقامة الشورى . فالشورى أمر عام وليس خاص بفرد ومن ثم فإن الظلم عام ولا تقتصر آثاره على المظلوم فقط بل ربما على أسرته الصغيرة ومجتمعها الكبير، كما أن من يظلم فردا واحدا لا يتورع عن ظلم جماعة كاملة.
ولعل في سكوت القرآن وسكوت رسول الله صلي الله عليه وسلم عن طريقة الحكم التي يحكم بها المسلمون من بعده لأكبر دليل على إن الله ورسوله أرادوا للمسلمين أن يعملوا عقولهم ويهتدوا للطريقة المثلى التي يحكمون بها بكامل حريتهم ما دامت هذه الطريقة لا تخرج على أصول الدين كما جاء في كتاب الله.
لقد قرأ فقهاء الإسلام القرآن قراءة خاطئة لأنهم لم يقرأوا إلا ظاهر القرآن على الرغم من أن القرآن لا لبس فيه ولا غموض. وعجبت كيف لم يتساءلوا عن معنى التكريم وكيف تعاموا عن نعمة العقل التي خص بها الله بني آدم فحجروا عليهم التفكير والتدبر وسجنوا العقل في قمقم النصوص وأعطوا لأنفسهم حق التفكير عن الأجيال التي تليهم ناسين أن لكل عصر ظروفه.
إن الحرية قيمة دينية وإسلامية خالصة وأولى الناس بها هم المسلمون لأنهم يقدرون مآلاتها ويفهمون حدودها والغاية منها. ومن ثم فإن حرمانهم من ممارستها لهي تعطيل لنعمة من نعم الله الذي كرم بها خلقه. ومن هنا فإن الإسلام سابق للغرب في تأكيد الحرية مارسها نبيهم في صحيفة المدينة وفي حديث جبل عرفات وفي الشورى وتدبير أمور المسلمين ومارسها الخلفاء الراشدون بعده ثم لما عطلها من جاء بعدهم من بني أمية والعباسيين بدأ المجتمع المسلم في التردي والتخلف الحضاري.
إن الذين ينكرون على المسلمين حقهم في الحرية إنما يقفون ذات الموقف الذي وقفته الملائكة عليهم السلام حينما قرر الله سبحانه خلق آدم { وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إن أعلم ما لا تعلمون } ( البقرة: 20). ومن ثم فإن كان الخلق قبل آدم فاسدين سفاكين للدماء ليس حجة على الله فإن فساد أهل الغرب وانحرافهم عن الحرية الحقة ليس حجة لحرمان المسلمين من حق كرمهم الله به.