منذ التاريخ القديم وهناك إدراك أن الرياضة لها تأثير إيجابي على الأخلاق ، خاصة في مرحلة الشباب، فاعتبرها “أفلاطون” مؤثرة في بناء الشخصية، ورأى ضرورة أن يتعلم المحارب الرياضة والموسيقى، وظلت الرياضة حاضرة في الوعي الإنساني كأحد المحفزات القوية لتقويم السلوك، وبناء النموذج الأخلاقي الجيد، ومقاومة الانحرفات، وبناء الشخصية القوية.
وخلال منتصف القرن التاسع عشر، اتجه البريطانيون إلى إدخال الرياضة في مدراسهم لدورها التحفيزي في بناء الشخصية، ودورها في غرس القيم الإيجابية، مثل: الاعتماد على النفس، والقدرة على الابتكار، وتجاوز العقبات، وقدرتها على مقاومة جنوح الشباب.
وشجعت الأمم المتحدة عام 2019 على دمج الرياضة في استراتيجيات منع جرائم الشباب، واعتبرت اللجوء للرياضة أحد المعززات القوية للوقاية من الجريمة والانحراف بين الشباب؛ بل دعت إلى استخدامها في إعادة التأهيل الاجتماعي للمجرمين، واستندت في هذا إلى مقررات “إعلان الدوحة”[1] عام 2015، ففي بانكوك بدولة تايلاند [2] راجع خبراء الأمم المتحدة الأدلة البحثية حول دور الرياضة في مقاومة الجريمة، وخلصوا إلى أن الرياضة قد تكون أداة فعالة في منع الجريمة، وأنها قد تعزز العوامل الوقائية ضد الجريمة والعنف.
والحقيقة أن الرياضة قد تكون فعالة في منع الجريمة، ولعل ذلك يرجع إلى أنها تغير التصورات عن الجسد، وتربطه بمنظومه القيم، كما أنها تحقق أهداف اجتماعية بغرسها قيما أخلاقية، مثل: العدالة والمساواة والإدماج، لكن تظل الرياضة غير كافية وحدها للنهوض بالمهمة الأخلاقية، ولابد من الاستثمار في التعليم والصحة والاقتصاد.
معضلة التوفيق
هناك مشكلة تأسيسية في العلاقة بين الرياضة والأخلاق ، فغاية الرياضة هي الفوز، فـ “النتيجة تقول كل شيء“، كما أن الرياضة ترتكز على الروح التنافسية الشديدة، وهذه الروح قد لا توفر مساحة كافية لتعمق الجانب الأخلاقي، وهنا تنشأ المعضلة في كيفية التوفيق بين التنافسية والأخلاق، خاصة إذا كانت الرياضة تعتمد على العنف والالتحام البدني.
لكن الرياضة والأخلاق أسستا لمشتركات بينهما، فأصبح الفوز في الرياضة لابد أن يتناسب مع الجانب الأخلاقي من خلال إنفاذ قواعد العدالة الخاصة باللعبة واحترامها، وصار الفوز من خلال الغش أو الخداع أو الفساد والرشوة مرفوضا، وهذا الارتباط بين الفوز والأخلاق أصبح نهجا تسرب إلى الجماهير، التي باتت غالبيتها ترفض الفوز المشوب بتنصل من الأخلاق، وأصبحت قيمة “العدالة” لها حضورها الكبير في المجال الرياضي، وصارت الطريق إلى الفوز لا يقل أهمية عن الفوز نفسه، وبالتالي حدث تغير في الوعي الاجتماعي تجاه السلوكيات غير الأخلاقية في الرياضة، فلم تعد فكرة “النتيجة تقول كل شيء” هي المسيطرة على العقل الرياضي.
ويلاحظ أن الرياضة أصبحت إحدى ميادين التدريب الأخلاقي، فساهمت في “اتقان الانضباط” إذ هناك أهمية في مراعاة والتزام القواعد واللوائح الرياضية لكل لعبة، وبات هذا الالتزام أحد معايير احترام الرياضيين، وأصبحت الكثير من الجماهير على دراية بتلك القواعد، وباتت قادرة على الاحتكام لمعايير واضحة في الحكم الأخلاقي على الرياضيين.
وعلى مستوى الرياضيين ، شجعت الرياضة على ضبط النفس، واحترام القواعد، وطاعة القرارات، واحترام القيادات، والالتزام بالمعايير، وصار ضبط النفس من المعايير المهمة في تقييم الشخصية الرياضية، وهنا توازي التدريب الرياضي مع التدريب الأخلاقي كعنصرين مهمين ومتكاملين في تكوين الشخصية الرياضية، كذلك فإن أغلب الرياضيين يعمل بروح الفريق في الرياضات الجماعية مثل كرة القدم، حتى تتناغم المهارة الفردية مع بقية الفريق لتحقيق الفوز، ومن ناحية أخرى تؤسس الرياضة لفكرة وسلوكيات احترام المهزوم، ولذا نشاهد في أغلب مباريات كرة القدم التصافح بين اللاعبين بعد انتهاء المباراة، ونظرا لتلك الأهمية الأخلاقية للرياضة، ظهرت بعض المشاريع العالمية الساعية لاستخدام الرياضة في التقويم الأخلاقي، ومنها:
–مشروع الفرصة الثانية The 2nd Chance Project في انجلترا، وكانت غايته تحسين سلوك الجناة مع تعزيز المهارات والمواقف الحياتية الإيجابية، وتأهيلهم للعودة للمجتمع، وحقق البرنامج بعض النجاحات.
–كرة السلة منتصف الليل Midnight Basketball : وهي مبادرة في الولايات المتحدة في نهاية الثمانيات والتسعينيات، وكانت تهدف إلى إبعاد الشباب عن الجريمة والمخدرات من خلال إبعادهم عن الشوراع خلال الساعات المتأخرة من الليل وإشراكهم في أنشطة رياضية لتقليل الانحراف.
هل تقاوم الرياضة الجريمة ؟
هناك تباين في الآراء في الإجابة على هذا الإشكال، والرأي الغالب أن الرياضة ليست بكافية وحدها للتقويم الأخلاقي والسلوكي ومقاومة الانحراف والجنوح، فالرياضة تحتاج إلى تضافر عوامل أخرى لتصبح مدخلا للاصلاح الأخلاقي والسلوكي، ونشير إلى عدة كتب مهمة في هذا السياق، فقد كشف أستاذ علم الاجتماع الأمريكي “دوجلاس هارتمان” Douglas Hartmann في كتابه ” كرة السلة في منتصف الليل” أن هذا البرنامج الذي بدأ في مدينة شيكاغو، وانتقل إلى عدد من المدن الأمريكية، للحد من وقوع الشباب الأمريكي الأسود في الجريمة، كانت الدعاية المصاحبة للبرنامج أكثر من النتائج المتحققة على أرض الواقع، وقلل “هارتمان” من المقولات الرائجة أن الرياضة قادرة على مساعدة المحرومين في التغلب على معاناتهم اليومية، وعدم انحرافهم إلى الجريمة، وكشف أن السياسة لعبت دورا في تقليل المغزى الاجتماعي والأخلاقي للبرنامج، فبدلا من معالجة الاختلال في المساواة التي يعاني منها السود، كان البرنامج وسيلة لمراقبة الشباب الأسود في الأحياء الفقيرة، وكشف الكتاب أن الأعداد التي استفادت من البرنامج كانت قليلا للغاية، وأن إقامة المباريات كانت تشترط وجود رجال الشرطة قريبا من المباراة.
وفي كتاب ” الرياضة والجريمة“[3] الذي شارك فيه أستاذ علم الاجتماع البريطاني “بيتر ميلوارد” Peter Millward تناولا لعدد من القضايا المتعلقة بالرياضة، ومنها قدرتها على كبح الجريمة والعنف؛ والعلاقة بين الإجرام والرياضة، والطريف أنه خصص جزءا للحديث عن كأس العالم بقطر 2022.
أما كتاب ” منع جرائم الشباب والرياضة” [4] لـ “إيفون داندوراند” و “جون هايدت” Yvon Dandurand, Jon Heidt فيؤكد أن برامج منع الجريمة المستند على الرياضة أصبح يحظى بشعبية متزايدة في جميع أنحاء العالم، رغم قلة الدراسات والأبحاث الميدانية حول الموضوع، وفي بحث مهم للأمم المتحدة [5] عن “دور الرياضة في الوقاية من المخدرات” [6] عام 2002م تأكيد على أن الرياضة قد تكون إحدى العوامل الوقائية ضد المخدرات، لكن البحث أكد أنه لا يوجد خيار واحد هو الأفضل للجميع.
وهناك دراسات عكسية تشير إلى تأثير الرياضة على إمكانية الإدمان والانحراف، وتؤكد تلك الدراسات “أن المشاركة الرياضية قد تزيد من خطر تعاطي المخدرات لدى بعض المراهقين، وأن هناك ارتباط بين المشاركة في بعض الألعاب الرياضية ورصد معدلات أعلى من استهلاك الكحول وتعاطي المخدرات، فالرياضيون ليسوا أقل مناعة من تعاطي المخدرات والإدمان من أي شخص آخر، وقد تزداد مخاطرهم بسبب الضغط الشديد لتحسين الأداء” ومع هذا يظل التلازم بين الرياضة والأخلاق قائما، وتظل الرياضة إحدى الوسائل المهمة في بناء الأخلاق.
[1] اعلان الدوحة عام 2015… يمثِل أهم مخرجات مؤتمر الأمم المتحدة الثالث عشر لمنع الجريمة والعدالة الجنائية، وتضمن الإعلان 14 بنداً، أكدت على دعم سيادة القانون، ومنع ومكافحة الإجرام، بكل أشكاله ومظاهره على الصعيدين المحلي والدولي، والعمل على تفعيل الأنظمة المعنية بالعدالة الجنائية، وتوفير سبل الوصول إلى العدالة للجميع.
[2] رابط نتائج تقرير الأمم المتحدة لمنع الجريمة على أساس الرياضة
[3] Sport and Crime: Towards a Critical Criminology of Sport
[4] Youth Crime Prevention and Sports: An Evaluation of Sport-Based Programmes and Their Effectiveness
[5] رابط الدراسة: https://www.unodc.org/pdf/youthnet/handbook_sport_english.pdf
[6] SPORT using sport for drug abuse prevention