إن من خصائص الإسلام العدل والمساواة في التكاليف والأوامر، فالناس أمام الشرع كأسنان المشط سواسية، لذلك اتصفت الشريعة الإسلامية الغراء بالعدل، فالإسلام يدعو إلى العدل ويعطي الجزاء الأوفى للقائمين بين الناس بالقسط، ويمنع في مقابله الظلم وكل ما يرتبط به من أقوال وتصرفات تقوي أصول الظلم وتقويض معالم العدل وأسسه ومبانيه. فقد أعلم الله عباده وجميع الخلق في القرآن العظيم بألوهيته وانفراده بالعبودية المطلقة، وأنه القائم العدل في جميع الأحوال من العقائد والعبادات والآداب والأعمال وفي الكون والخليقة.
وكان من وجوه العدل أنه سبحانه وتعالى أمر حقا بالعدل في الأحكام ودعا إليه وبين أركانه ونتائجه وربطه بالإيمان، كما تقرر في نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} [النحل 90/ 16] وقوله {وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء 58/ 4]، فالله عادل في الشريعة وفي الكون، حيث إنه أتقن نظام الكون وعدل بين القوى الروحية والمادية، وأقام التوازن الدقيق في الأحكام بين الإنسان والخالق، وبين الفرد والجماعة، وبين الإنسان وأخيه، وبين فئات الناس في مجتمع ما، بين الغني والفقير ونحو ذلك[1].
كما نزه الله تعالى ذاته العلية عن الظلم وكل ما يتصل به أو ينبني عليه أو ينتهي إليه، فالظلم محال على الله تعالى، وقرر ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [النساء: 40]، ويقول عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ [يونس: 44].
والعدل من صفات الله اللازمة للرب في أوامره وتشريعاته وجزائه، ومظاهر العدل مبينة في شرائعه كثيرة، من أولها أنه تعالى لا يحاسب الإنسان على ما لا يقدر عليه، بل لم يكلفه أصلاً بما يعجزه {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} (البقرة: 286).
وبالتالي جاءت شرائع الإسلام مبناها على اليسر والسهولة {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: 185) {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (المائدة: 6).
وصف ابن القيم الشريعة الإسلامية أنها جاءت لتحقيق أعلى غايات العدل والإحسان، واعتبر العدل أحد مقاصد الشريعة الإسلامية وأهدافها، فقال: الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله – ﷺ – أتم دلالة وأصدقها[2].
وهذا الوصف ينبه إلى ضرورة تحري العدل في جميع القضايا الشرعية، لأن الله الحكم العدل نفسه راعى هذه الخاصية ودعا إليها ورغب فيها وفي تكثيرها، واعتبر ابن القيم بكلامه السابق أن التشريع الذي يتعرى عن العدل فإنه سيؤدي إلى فساد عميم، وفوضى عريم، وينقلب إلى الجور الذي نهى الله تعالى عنه. لهذا السبب اعترض ابن القيم على العالم الذي لا ينصف خصمه أنه ترك الجادة الصحيحة، فقال: ورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكون الحق مطلوبه، يسير بسيره وينزل بنزوله، يدين دين العدل والإنصاف ويحكم الحجة، وما كان عليه رسول الله – ﷺ – فهو العلم الذي قد شمر إليه، ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه، لا يثني عنانه عنه عذل عاذل، ولا تأخذه فيه لومة لائم، ولا يصده عنه قول قائل[3].
ونوع العدل الذي جاء به الإسلام وكرس براهينه مما يوافق طبائع الناس وفطرهم، بل الاحكام الشرعية الإسلامية مصطبغة اصطباغا تاما، فالأحكام الشرعية هي العدل، والعدل هو الأحكام الشرعية، فلا تميل إلى جانب الحاكم ضد مصالح المحكوم، ولا تعطي الرجال حقوقا بحيث تظلم النساء، ولا يمكن أن تخطئ المقدار المناسب للجريمة؛ لأن واضعها يتصف بالعلم المطلق الشامل[4].
وتطرق الدكتور الريسوني لبعض مظاهر العدل والقسط في الإسلام، حيث اعتبر إقامة القسط أو القيام بالقسط مقصدا كبيرا، متشعبا في مبانيه ومراميه، والتمس هذه المظاهر في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25] حيث قررت الآية الكريمة أن:
– إرسال الرسل جميعا
– البينات التي أوتوها
– والكتب التي بعثوا بها
– والميزان التي فيها ومعها.
هذه الأمور كلها نزلت ووضعت للناس لأجل تحقيق مقصد واحد وهو أن يقوم الناس بالقسط، وقال: “ومعنى هذا أن كل ما جاء به الرسل مهما تعددت أسماؤه ومسمياته إنما هو (القسط) لأن هذه الآية جمعت كل مقاصدهم وأسباب بعثتهم في شيء واحد هو القيام بالقسط.
لذلك جعل الله القسط والعدل أساس العصمة من الخصومات والنزاعات التي تنشأ بين فئات المؤمنين قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].
وقال الله تعالى في الإنصاف بين الناس: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
وأمر بالقسط والعدل في القضاء بين الناس وأداء الشهادات يقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: 42]. وقال: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾ [الطلاق: 2].
وأجاز التعدد في الزواجات عند أمن الظلم والجور، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: 3].
لذلك قرر الدكتور الريسوني على طريق القرآن الكريم أن القيام بالقسط مطلوب من كل الناس ولجميع الناس وفي جميع الحالات وفي كل الحالات: يقومون به ويقومون لأجله، ويحيون به ويتصرفون بمقتضاه وينعمون بظله.. فمقصود الشريعة الإسلامية ومطلوبها: إقامة حياة القسط ومجتمع العدل، وليس وزارة العدل[5].
وتعين على أولي أمر المسلمين من العلماء وغيرهم ممن يشرفون على شؤون المسلمين أن يتصفوا بالعدل والقسط في جميع الأحوال، ويراعوا هذه الخاصية كمبدأ يجب تكريسه وتعميق مقاصده في المجتمع ككل، وذلك ليعيدوا الأمة مجدها وعزها وكرامتها، فإن ما ضاع للأمة أتى من وراء قلة الاكتراث لهذا المبدأ واللهث وراء سراب الغرب الهفاف. ونعتبر بقول ربعي بن عامر الشهير الذي ينبه عن إدراكه الكامل لهذه الخاصية، وهو يرد على قائد جيش الفرس رستم في معركة القادسية، بثبات وإيمان كبير، قال ربعي: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسَلَنا بدينه إلى خَلْقه لندعوَهم إليه فمن قَبِلَ ذلك قَبِلْنَا منه ورجَعْنا عنه، ومن أبى قاتَلْناه أبدًا حتى نفضيَ إلى موعود الله[6].
[1] التفسير المنير (3/179).
[2] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 11 ط العلمية):
[3] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 78 ط العلمية)
[4] خصائص الشريعة الإسلامية ، عمر سليمان الأشقر (74).
[5] الكليات الأسايية للشريعة الإسلامية (105).
[6] البداية والنهاية (9/622).