لما كانت تلاوة ألفاظ القرآن الكريم هي أساس الوظائف الأخرى … فإن هذا يقتضي التوسع في شرح مفهوم التلاوة، وبيان أهميته، وحيزه الواقعي من وظيفة البلاغ … ولتحقيق ذلك انقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب
مدلول التلاوة
اقترن هذا اللفظ (التلاوة) دون غيره من الألفاظ بقراءة القرآن الكريم لما له من دلالات تجعله دون غيره المعبر عن مراد الله عزّ وجلّ من القراءة، وأهم مدلولين لهذا اللفظ:
أولا: التلاوة
تعني القراءة: فتلوت القران تلاوة: قرأته، ومن ذلك قول الله جل جلاله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها} (آل عمران: 93)[1] ، وعمّ به بعضهم كل كلام؛ كما في قوله جل جلاله: {فَالتَّالِياتِ ذِكْراً} (الصافات: 3) سواء كانوا هم الملائكة، أو غيرهم ممن يتلو ذكر الله تعالى، وكما في قوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ} (البقرة: 102)؛ قال عطاء: على ما تحدّث وتقصّ، وقيل: ما تتكلم به كقولك فلان يتلو كتاب الله أي: يقرؤه ويتكلم به، ثم صارت التلاوة حقيقة عرفية في قراءة القرآن الكريم، وقد تكون قراءة لغيره لكن في النادر وعند التقييد بذلك[2].
وسميت القراءة تلاوة لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر، والتلو التبع[3]، كما قال الثعالبي: «يقرؤنه حق قراءته، وهذا أيضا يتضمن الاتباع والامتثال»[4]، «فاستعملت التلاوة في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه»[5]، وفي قوله سبحانه وتعالى: {هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ} (يونس: 30) ، قرأ حمزة والكسائي تتلو «من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار»[6]، والتلاوة بمعنى القراءة من أعظم خصائص القرآن الكريم فالكتب المتقدمة لا يجب فيها هذه التلاوة[7].
ثانيا: الاتباع:
إذ «التاء واللام والواو أصل واحد، وهو الإتباع. يقال: تلوته إذا تبعته»[8]
والمراد بالاتباع هنا أمران:
أ- الاتباع اللفظي:
بأن يتبع اللفظ اللفظ في قراءة القران الكريم على هيئة مخصوصة، فسميت قراءة القران تلاوة لأته يتبع اية بعد اية[9]، ومنه جاءت الخيل تتاليا أي متتابعة[10].
ب- الاتباع العملي:
ومنه تلا إذا اتّبع[11] فعلى قارئ القران يتبع في قراءته ما أنزله الله عز وجل، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبع ذلك إذا قرأه عليه جبريل عليه السّلام، ويقال: كان يتلو كتاب الله؛ هو الذي يقرؤه ويعمل بما فيه، فيكون تابعا له، والقران يكون سائقا له وقائدا[12] ، ومنه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، ويوضح ذلك قوله جل جلاله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ} (البقرة: 44) ففيه توبيخ عظيم لمن فهم، وتتلون تقرؤن الكتاب التوراة وكذا من فعل فعلهم وكان مثلهم، وفلان يتلو فلانا أي: يحكيه ويتبع فعله[13]، واتباعه هنا يكون بامتثال الأمر والنهي، وروى سفيان الثوري في تفسيره عن أبي رزين في قوله سبحانه وتعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} (البقرة: 121) قال: «يتبعونه حق اتباعه، ويعملون به حق عمله» ، وقال قتادة:
«هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم آمنوا بكتاب الله، وعملوا بما فيه»[14].
وأما قول الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} (البقرة: 121) فشامل للمعنيين[15]؛ إذ معناه يقرأونه حق قراءته … ويعملون بما فيه فيتّبعونه حقّ اتّباعه[16]. كما قال الغزالي: «وتلاوة القران حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار، والائتمار. فاللسان يرتل، والعقل يترجم، والقلب يتعظ»[17].
ثالثا: أن تكون القراءة في التلاوة على هيئة مغنّاة مخصوصة أي مرتلة ترتيلا مع التغني، ف «العرب تسمي المراسل في الغناء والعمل المتالي، والمتالي الذي يراسل المغنّي بصوت رفيع؛ قال الأخطل:
صلت الجبين كأنّ رجع صهيله … زجر المحاول، أو غناء متال»[18]، كما تظهر المحاكاة في التلاوة ومحاولة التقليد المقطعي والتنغيمي، ومنه قولهم:
فلان يتلو فلانا أي يحكيه ويتبع فعله[19]
العلاقة بين التلاوة والقراءة
مما سبق يتبين أن العلاقة بين التلاوة القراءة علاقة عموم وخصوص وجهي، فكل منهما خاصة من وجه عامة من وجه اخر، فالتلاوة خاصة من الناحية العرفية بقراءة القران الكريم أو ما يماثله من الكتب المنزلة، عامة من حيث ضرورة اجتماع الاتباع اللفظي مع المعنوي، والقراءة عامة من حيث شمولها لكل مقروء كتابا منزلا أو غيره، خاصة في الأمر النظري دون المعنوي، وعلى هذا ينزل قول الراغب: «التلاوة الاتباع، وهي تقع بالجسم تارة، وتارة بالاقتداء في الحكم، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى، والتلاوة في عرف الشرع تختص باتباع كتب الله تعالى المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بامتثال ما فيه من أمر ونهي، وهي أعم من القراءة فكل قراءة تلاوة من غير عكس»[20].
علاقة التلاوة بالتعليم:
والمراد هنا هل التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها؟ وما خصائصها الدالة على ذلك؟
التلاوة وظيفة تعليمية:
وذلك لأن مجرد إلقاء اللفظ القراني يتضمن الإشارة إلى السامع أن يؤمن به ويتعلمه من حيث هو قران، ويدعم هذه الحقيقة الواقعية من الناحية الشرعية قوله جل جلاله {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها} (الإسراء: 110) كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القران، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم القران حتى يأخذوه عنك»[21]، وفي هذا إيضاح لطبيعة الوظيفة التعليمية لألفاظ القران الكريم، وإصرار على تثبيتها في نفوس الملأ على أنها أساس وظائفه، وجوهر تبليغه وإذا كان البلاغ أصل التعليم، فإن أول جزء في التعليم والبلاغ المبين هو إبانة لفظ القران الكريم تلاوة فردية على نفسه، ومتعدية بقراءته على الغير أو بتعليمه لهم.
من خصائص التلاوة التعليمية للقران الكريم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم:
1- ألزم صلّى الله عليه وسلّم برفع صوته رفعا معتدلا تبين معه الايات حتى يستبين لسامعه مع سرية الدعوة أو اشتداد الأذى عليها فيؤخذ عنه، كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2- التكرار لتلاوة ألفاظ القران الكريم: للناس عامة، ويدل له التكرار في الكلام على مواقف الكفار من القران الكريم، كما في قوله عزّ وجلّ: {وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} (الانشقاق: 21)، وقوله {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26)، فقد كانوا يشتطون في محاولة صرف الناس عن سماع كلام الله بالاستهزاء والسخرية حتى كان ذلك مبررا كافيا لرد اعتدائهم بالقتل فقد روى ابن جرير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله! أسيري؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه كان يقول في كتاب الله عزّ وجلّ ما يقول» فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله أسيري؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أغن المقداد من فضلك» فقال المقداد: هذا الذي أردت. وفيه أنزلت هذه الاية {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال: 31)[22]
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكثر من تلاوة القران الكريم على من يبلغهم عامة، فيصل إلى شغاف من أراد الله بهم خيرا، ويحجب عن غفلة القلوب فكانوا {لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} (الكهف: 101) ف «لعداوتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلو عليهم»[23] .
3- نقله صلّى الله عليه وسلّم الوظيفة لأصحابه رضي الله عنهم تعبدا لجعل نطاق المستمعين أكثر:
فقد قام الصحابة رضي الله عنهم بتلاوة القران الكريم على الناس منذ وقت مبكر فعن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة- وهو سيد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر:
أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج، ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك. فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق.
فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القران، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى بن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك وأرضى بجواز الله. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بمكة[24] .
وهذا يدل على أن القراءة العامة كانت مذ كان الوحي، ولم تكن قاصرة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
4- زيادة التكرار على المؤمنين، ليحفظوها ويعوها كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ} (الأنعام: 51) ، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ} (ق: 45) مع أنه ينذر به إنذارا عاما كما في قوله جل جلاله: {كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 2) ، وكما في قوله عزّ وجلّ: {كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} (الرعد: 30)
5- أمر بمداومة التلاوة والحرص عليها كما في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ} (النمل: 91- 92)، {اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} (العنكبوت: 45) ، ف (اتل) هنا «أمر من التلاوة والدأب عليها»[25].
6- كان يقرأ جميع القران في الصلاة وإن لم يرو حديثيا جزئيات تلك القراءة، لكن روي إجمالا ما يدل على ذلك فروى عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما قال: «ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤم بها الناس في الصلاة»[26]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله صلّى الله عليه وسلّم المفصل بمكة، فكنا حججا نقرؤه لا ينزل غيره[27].
وصف التلاوة في القران الكريم:
تكرر وصف مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بتلاوة القران وحصرها في ذلك كما في قوله تعالى ذكره {وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا} (القصص: 59) ، وعرف الصحابة أن هذه الوظيفة هي أساس وظائفه كما كان يؤديها بمقتضياتها كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابه … إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا … به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه … إذا استثقلت بالمشركين المضاجع[28]
ولا شك في المراد التعليمي مع القصد التعبدي المحض في هذه القراءة كما يقول (سير وليم موير) الذي نقل رأيه صاحب كتاب (حياة محمد) : «كان الوحي المقدس أساس أركان الإسلام، فكانت تلاوة ما تيسر منه جزا جوهريا من الصلوات اليومية عامة أو خاصة، وكان القيام بهذه التلاوة فرضا وسنة يجزى من يؤديهما جزاء دينيا صالحا … لذلك وعت القران ذاكرة كثرة المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعا. وقد يسرت عادات العرب هذا العمل. فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم … ولما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد اعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم على صفحات قلوبهم، وبذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو … وقد بلغ بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من قوة الذاكرة ودقتها، ومن التعلق بحفظ القران واستذكاره حدا استطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عرف منه إلى يوم كانوا يتلونه»[29]
ملامح تعليمية في حياة المعلم القدوة صلّى الله عليه وسلّم:
1- ظهر التأكيد على التلاوة في الايات المدنية، فالايات الأربع التي ذكرت فيها وظائف النبي صلّى الله عليه وسلّم الثلاث كلها في سور مدنية دلالة على أهمية إيلاء هذا الجانب أشد الاهتمام بعد تأمين الدولة الإسلامية، وليس معنى ذلك عدم الاستنفار لأداء هذه الوظيفة في عهد قبل ذلك بل المراد توسيع دائرة التعليم في هذا العهد، وابتكار محاضن فردية ومؤسسية له بحسب نمو المجتمع مدنيا، واتساعه جغرافيا، ولذا ورد المن بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما أرسل لأجل ذلك كما قال جل جلاله: {كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ} (البقرة: 151)
2- أن هذه الوظيفة وظيفة مشتركة بين جميع الأنبياء، على أنه قد تميز بها النبي صلّى الله عليه وسلّم تميزا ظاهرا لتميزه بالقران ثم بالخاتمية، وقد حدد هذه الوظيفة ابتداء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام[30] .
3- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تأهل بالصفات التعليمية اللازمة للمعلم الكامل القدوة (النموذج) ، وعرف الصحابة عنه ذلك، ومما يؤشر في هذا السبيل: ما قاله معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: «فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني»[31]، والمراد الإشارة إلى هذا المعلم من صفاته صلّى الله عليه وسلّم لا التفصيل.
4- كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجعل ذلك أول شيء يجب أن يتعلمه العبد عند إسلامه، وإن كان مقدار المحفوظ المعلّم يتفاوت بحسب الأهلية للتصدر معلّما دائما للإقراء، أو مسلما يجب عليه حفظ ورد معين … ويوضح ذلك ما رواه سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: كنت فيمن أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الطائف، فخرجت من أهلي من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر فصاعدت في الجبل، ثم هبطت فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلمت، وعلمني {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) {وإِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها} (الزلزلة: 1) وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال: «هن الباقيات الصالحات وفي رواية قل يا أيها الكافرون»[32]
ويتضح مما سبق أن تعليم القران الكريم على الهيئة التي كانت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأعمال: وقد أثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الحقيقة بقوله: «خيركم من تعلم القران وعلمه»[33]، ولا شك أن أول ما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتعليمه إنما كان تعليم ألفاظ القران الكريم كما في صريح تلك الايات المتقدمة، وهو أول جزء من أجزاء وظيفة البلاغ الذي أمر به في رسالته، وقد سئل الثوري- رحمه الله تعالى- عن الجهاد وإقراء القران فرجح الثاني واحتج بهذا الحديث.
فإن اعترض على كون تعليم القران الكريم أفضل أنواع التعليم بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرؤون القرآن ويدعون الله، والاخرى يتعلمون ويعلّمون، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ على خير: هؤلاء يقرؤون القران ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلّمون وإنما بعثت معلما» فجلس معهم[34]، فدل هذا بظاهره على تقديم تعليم غير القرآن من أمور الشرع.
فالجواب: ليس في الحديث ذكر لتعليم القران الكريم في الحلقة الأولى بل غاية ما فيه ذكر قراءتهم للقرآن لا تعليم ألفاظه، وليس هذا مدار المسألة، على أن ذكر التعليم في الحلقة الثانية منصرف أول ما ينصرف إلى تعليم القرآن الكريم، ولذا طلب الأوس والخزرج من يعلّمهم القرآن الكريم، كما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عندما طلب منه إرسال من يعلم القبائل كان يرسل معهم القراء، ويحمل على هذا الرواية الاخرى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر بمجلسين في مسجده فقال: «كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه: أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه والعلم، ويعلّمون الجاهل، فهم أفضل وإنما بعثت معلما» قال: ثم جلس فيهم[35]
وفي لفظ: دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم المسجد وقوم يذكرون الله عزّ وجلّ، وقوم يتذاكرون الفقه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلا المجلسين إلى خير، أما الذين يذكرون الله عز وجل ويسألون ربهم فان شاء أعطاهم وان شاء منعهم، وهؤلاء يعلّمون الناس ويتعلمون، وإنما بعثت معلما وهذا أفضل» فقعد معهم[36] .
وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على ذلك، وكانت له الحلقات الخاصة للقراءة والإقراء:
كما في قول الله- تعالى ذكره-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} (الكهف: 28) ، فقد قال بعض المفسرين فيها: «كان ذلك تعلّمهم القران وقراءته»[37]، ويدل لهذا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إني لجالس ذات يوم في عصابة من ضعفاء المهاجرين، ورجل منا يقرأ علينا القران ويدعو لنا، وإن بعضنا لمستتر ببعض من العري وجهد الحال؛ إذ خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما راه قارئنا أمسك عن القراءة، فجاء وجلس إلينا، فقال بيده، فاستدارت له حلقة القوم فقال: «ألم تكونوا ترادون حديثا بينكم» قالوا: بلى يا رسول الله صاحبنا يقرأ علينا القران ويدعو لنا. قال: «فعودوا في حديثكم» فقال الرجل: يا رسول الله اقرأ وأنت فينا؟ قال: «نعم» . ثم قال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» ..[38].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إلى المسجد، فوجد أصحابه عزين يتذاكرون فنون العلم، فأول حلقة وقف عليها وجدهم يقرؤون القران وجلس إليهم، فقال: «بهذا أرسلني ربي» ثم قام إلى الثانية فوجدهم يتكلمون في الحلال والحرام وجلس إليهم ولم يقل شيئا ثم قام إلى الثالثة فوجدهم يذكرون توحيد الله عز وجل ونفي الأشباه والأمثال عنه وجلس إليهم كثيرا ثم قال: «بهذا أمرني ربي» قال جابر: لأن التوحيد معرفة الله عز وجل، ومن لا يعرف توحيد الله فليس بمؤمن[39]
[1] انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 510)
[2] انظر: التبيان في تفسير غريب القران (ص 351)
[3] التبيان في غريب القران (ص 82) ، مرجع سابق
[4] (الثعالبي) عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري: الجواهر الحسان في تفسير القران (1/ 104) ، دار القلم، بيروت
[5] انظر: القرطبي 1/ 369، مرجع سابق
[6] تفسير البيضاوي المسمى بأنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 195)
[7] (القاضي عبد الجبار) قاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد ت 415 هـ: تنزيه القران عن المطاعن، طبعت على نفقة: محمد سعيد الرافع- صاحب المكتبة الأزهرية- ط 1 1329 هـ- طبعت بمطبعة الجمالية بمصر
[8] انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 181) ، مرجع سابق
[9] انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 181) ، مرجع سابق
[10] مختار الصحاح (ص 23) ، لسان العرب (14/ 102)
[11] لسان العرب (14/ 102) ، مرجع سابق
[12] انظر: (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 هـ: جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 91) ، مرجع سابق
[13] انظر: لسان العرب (14/ 104) ، مرجع سابق
[14] انظر: لسان العرب (14/ 104) ، مرجع سابق
[15] الصحيح أنه يجوز إرادة المعنيين بعبارة واحدة، وقد وضع الأصوليين بناء على ذلك أصولا، واستخرجوا للألفاظ دلالات، أشار المفسرون لذلك، وقد عقد الراغب الأصفهاني فصلا بعنوان: (فصل في جواز المعنيين المختلفين بعبارة واحدة) انظر: مقدمة التفسير (ص 425).
[16] انظر: (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 هـ: جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 91) ، مرجع سابق
[17] (الغزالي) أبو حامد محمد بن محمد ت 505 هـ: إحياء علوم الدين (1/ 287) ، دار المعرفة، بيروت.
[18] لسان العرب (14/ 102) ، مرجع سابق
[19] انظر: لسان العرب (10/ 104) ، مرجع سابق
[20] (الراغب) أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني ت 502 هـ: المفردات في غريب القران (ص 79).
[21] ابن كثير (3/ 70) ، مرجع سابق، والحديث في صحيح ابن خزيمة (3/ 39).
[22] الطبري (9/ 231) ، مرجع سابق، ورواه أبو داود في المراسيل (ص 249) ، انظر: (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275 هـ: المراسيل، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1408 هـ
[23] (الواحدي) أبو الحسن علي بن أحمد ت 468 هـ: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 673) ، تحقيق: صفوان عدنان داودي، دار القلم- بيروت، ط 1، 1415 هـ.
[24] البخاري (2/ 803) ، مرجع سابق
[25] القرطبي 13/ 347، مرجع سابق
[26] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 2/ 114
[27] سنن سعيد بن منصور 2/ 388، وإسناده قوي كما في التعليق على شرح مشكل الاثار 4/ 397
[28] البخاري 1/ 387 ابن كثير 3/ 460، مرجعان سابقان
[29] انظر: حياة محمد ليهكل بواسطة محمد طاهر عبد القادر الكردي المكي: تاريخ القران وغرائب رسمه وحكمه (ص 1) ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
[30] انظر: ابن كثير (1/ 184) ، مرجع سابق
[31] مسلم (1/ 381) ، مرجع سابق
[32] الطبراني في الكبير (6/ 51) ، الحديث في مجمع الزوائد (7/ 166) ، مرجع سابق، وانظر: الإصابة (3/ 49)
[33] البخاري (4/ 1919) ، ابن حبان (1/ 324) ، الترمذي (5/ 173) ، مراجع سابقة
[34] سنن ابن ماجه (1/ 83)
[35] (الدارمي) أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن 255 هـ: سنن الدارمي (1/ 111) ، تحقيق: أحمد فواز زمرلي، خالد السبع العلمي، 1407 هـ، دار الكتاب العربي- بيروت
[36] (الطيالسي) أبو داود سليمان بن داود الفارسي البصري ت 204 هـ: مسند الطيالسي (ص 298) ، دار المعرفة، بيروت
[37] الطبري (7/ 205) ، مرجع سابق
[38] (الطبراني) مسند الدنيا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ت 360 هـ: المعجم الأوسط (8/ 357) ، مراجعة: محمود الطحان، 1405- 1985، مكتبة المعارف- الرياض.
[39] (الأزدي) الربيع بن جبيب بن عمر البصري: مسند الربيع (ص 32) ، تحقيق محمد إدريس وعاشور بن يوسف، دار الحكمة، بيروت، ط 1، 1415 هـ … وإسناد هذا الحديث والذي قبله بحاجة إلى مزيد نظر.