بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان سنة (60هـ=679م) رفض عبد الله بن الزبير مبايعة يزيد بن معاوية الذي خلف أباه في منصب الخلافة، واتجه إلى مكة وركن إلى البيت الحرام، وسمى نفسه العائذ بالبيت، ولم يعلن عن رغبته في الخلافة، وفي الوقت نفسه ظل رافضًا مبايعة يزيد بن معاوية، الذي حاول إجباره على مبايعته، لكنه لم يفلح في ذلك، وتوفي دون أن يبايعه ابن الزبير.
وبعد وفاته سنة (64هـ=683م) تعرضت الدولة الأموية للفوضى والاضطراب، وزادها اضطرابا امتناع معاوية بن يزيد عن تولي الخلافة، ولم تجد الأمة خيرا من عبد الله بن الزبير لتولي هذا المنصب لعلمه وفضله وقدرته وكفاءته؛ فبايعته بالخلافة، ولم تتخلف بلدة عن مبايعته سوى الأردن في الشام، التي انطلق منها بنو أمية لمواجهة ابن الزبير، وتحقق لهم ما أرادوا، وأعادوا الحكم إلى بيتهم، ونجحوا في القضاء على دولة ابن الزبير، موضع حديث اليوم.
المولد والنشأة
في بيت من أكرم بيوت العرب وأنبلها نسبًا وشرفًا ولد عبد الله بن الزبير في الثاني من شعبان من العام الثاني للهجرة، فأبوه الزبير بن العوام من كبار الصحابة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهو يعد أول مولود للمسلمين في المدينة بعد الهجرة، وكان فرح المسلمين بولادته كبيرا، وسعادتهم به طاغية، لأن اليهود كانوا يقولون: سحرناهم فلا يولد لهم ولد.
ونشأ عبد الله بن الزبير نشأة طيبة، وتنسم منذ صغره عبق النبوة، وكانت خالته السيدة عائشة –رضي الله عنها- تعنى به وتتعهده، حتى كنيت باسمه، فكان يقال لها “أم عبد الله”، لأنها لم تنجب ولدًا، وكان في عبد الله منذ صغره ميل للزعامة ورغبة في القيادة، وتنبأ له عمر بن الخطاب بمستقبل باهر لما رأى من رباطة جأشه وثبات قلبه، واعتداده بنفسه، فقد مر عمر بعبد الله وهو يلعب مع رفاقه من الصبيان، فأسرعوا يلوذون بالفرار هيبة لعمر وإجلالاً له، في حين ثبت عبد الله بن الزبير، ولزم مكانه، فقال له عمر: مالك لم تفر معهم؟ فقال عبد الله لم أجرم فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقا فأوسع لك.
لم يكن غريبًا على من نشأ هذه النشأة الصالحة أن يشب محبًا للجهاد، فشهد وهو في الرابعة عشرة من عمره معركة اليرموك الشهيرة سنة (15هـ=636م) واشترك مع أبيه في فتح مصر، وأبلى بلاءً حسنًا وخاض عمليات فتح شمال إفريقيا تحت قيادة عبد الله بن سعد في عهد عثمان بن عفان، وأبدى من المهارة والقدرة العسكرية ما كفل للجيش النصر، كما اشترك في الجيوش الإسلامية التي فتحت إصطخر.
ولما حوصر الخليفة عثمان بن عفان في بيته سنة (35هـ=655م) كان عبد الله بن الزبير في مقدمة المدافعين عنه، وشهد موقعة الجمل مع أبيه الزبير وطلحة بن عبيد الله والسيدة عائشة –رضي الله عنها- ولما بويع معاوية بن أبي سفيان بالخلافة سنة (41هـ=661م) أحسن إلى عبد الله بن الزبير، واستماله إليه، وأكرمه، وكان هذا صنيعه مع كبار الصحابة وأبنائهم، وترتب على ذلك أن هدأت الأحوال واستقرت الأوضاع بعد الفتنة العارمة والرياح الهوجاء التي كادت تعصف بالدولة وتهدد أمنها ووحدتها، وقابل ابن الزبير هذا الإحسان والإكرام بن معاوية بحسن الطاعة والثناء عليه، واشترك في الغزوات والفتوحات التي قامت في عهده، فغزا إفريقية تحت قيادة معاوية بن حديج سنة (45هـ=665م)، وشارك في فتح القسطنطينية سنة (49هـ=669م) مع الجيش الذي قاده يزيد بن معاوية.
معارضة البيعة ليزيد بن معاوية
وظلت العلاقة بين معاوية وابن الزبير -رضي الله عنهما- على أحسن ما تكون العلاقة، حتى بدأ معاوية في أخذ البيعة بالخلافة لابنه يزيد من بعده، فقاد ابن الزبير حركة المعارضة لهذه الخطوة التي تحول الخلافة من الشورى والانتخاب إلى الملك والتوريث، ولم ينجح معاوية في إقناع هؤلاء المعارضين من أبناء الصحابة في مبايعة يزيد، فلجأ إلى الشدة والعنف في سبيل تحقيق ذلك.
ولما تولى يزيد بن معاوية الخلافة سنة (60هـ=679م) حرص على أخذ البيعة من الأمصار الإسلامية، فلبت نداءه وبايعته دون تردد، في حين استعصت عليه بلاد الحجاز حيث يعيش أبناء الصحابة الذين امتنعوا عن مبايعة يزيد، وكان في مقدمة الممتنعين الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، غير أن يزيد بن معاوية ألح في ضرورة أخذ البيعة منهما، ولو جاء الأمر قسرًا وقهرًا لا اختيارًا وطواعية، ولم يجد ابن الزبير مفرًا من مغادرة المدينة والتوجه إلى مكة، والاحتماء ببيتها العتيق، وسمى نفسه “العائذ بالبيت” وفشلت محاولات يزيد في إجباره على البيعة.
وبعد استشهاد الحسين بن علي في معركة كربلاء في العاشر من المحرم سنة (61هـ=10 من أكتوبر 680م) التف الناس حول ابن الزبير وزاد أنصاره سخطًا على يزيد بن معاوية، وقد سبق لنا أن تناولنا تفاصيل هذه المأساة المروعة التي أدمت قلوب المسلمين في (10 من المحرم)، وحاول يزيد أن يضع حدًا لامتناع ابن الزبير عن مبايعته، فأرسل إليه جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة، غير أنه توفي وهو في الطريق إلى مكة، فتولى قيادة الجيش “الحصين بن نمير”، وبلغ مكة في (26 من المحرم 64هـ)، وحاصر ابن الزبير أربعة وستين يومًا، دارت خلالها مناوشات لم تحسم الأمر، وفي أثناء هذا الصراع جاءت الأنباء بوفاة يزيد بن معاوية في (14 من ربيع الأول سنة 64هـ=13 إبريل 685م)، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوف جيش يزيد.
ابن الزبير خليفة للمسلمين
توقف القتال بين الفريقين، وعرض “الحصين بن نمير” على ابن الزبير أن يبايعه قائلاً له: إن يك هذا الرجل قد هلك –يزيد-، فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشام، فإن الجند الذين معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان” لكن ابن الزبير رفض هذا العرض، الذي لو قبله لربما تم له الأمر دون معارضة، لأن بني أمية اضطرب أمرهم بعد موت يزيد من معاوية ورفض ابنه معاوية بن يزيد تولي الأمر، ثم لم يلبث أن توفي هو الآخر بعد أبيه مباشرة.
أعلن ابن الزبير نفسه خليفة للمسلمين عقب وفاة يزيد بن معاوية، وبويع بالخلافة في (7 من رجب 64هـ=1 من مارس 648م)، ودخلت في طاعته ومبايعته الكوفة والبصرة ومصر، وخراسان، والشام معقل الأمويين، ولم يبق سوى الأردن على ولائه لبني أمية بزعامة حسان بن بحدل الكلبي، ولم يلق ابن الزبير تحديًا في بادئ الأمر، فهو صحابي جليل، تربى في بيت النبوة، واشتهر بالتقوى والصلاح والزهد والورع، والفصاحة والبيان والعلم والفضل، وحين تلفت المسلمون حولهم لم يجدوا خيرًا منه لتولي هذا المنصب الجليل.
غير أن هذه الملكات لم تكن وحدها كفيلة بحسم الأمر له على الرغم من مبايعة معظم العالم الإسلامي له، فقد كانت تنقصه أشياء لا تعيبه ولا تعيب خلقه، لكنها كانت من ضرورات عصره كاستمالة الناس وحشد الأتباع والأعوان، ببذل الأموال والإغداق عليهم جذبًا لهم، وإشاعة للفرقة وشق الصفوف بين الخصوم وهذا ما نجح فيه خصومه وعجز هو عن مجاراتهم فيه.
ابن الزبير ومروان بن الحكم
بدأ ابن الزبير خلافته في مكة وهي على قداستها وعظمتها لم تكن تصلح عاصمة لدولة مترامية الأطراف، وترك دمشق التي كانت تتوسط العالم الإسلامي وتمتلئ بالرجال والمال، ثم أقدم على خطوة كان فيها حتفه، حين أخرج معظم رجال بني أمية من المدينة، وكان فيهم: “مروان بن الحكم” وابنه عبد الملك، وهو ما أعطاهم الفرصة من التوجه إلى الشام، وجمع شمل الأنصار والأعوان الذين حضروا من كل مكان، وعقدوا مؤتمرًا في الجابية، وبايعوا مروان بن الحكم بالخلافة، ولو أن ابن الزبير أبقى بني أمية في المدينة تحت نظره ومراقبته، وكان في مقدوره أن يفعل ذلك، لما تحققت هذه الخطوة الأولى التي كان لها شأن في انطلاق بني أمية لإعادة الخلافة لهم والقضاء على ابن الزبير.
استهل مروان بن الحكم أمره باستعادة الشام التي كان معظم أقاليمها قد بايع ابن الزبير بعد أن نجح في هزيمة أنصار ابن الزبير، وقتل قائدهم الضحاك بن قيس في معركة مرج راهط في نهاية سنة (64هـ=683م)، ثم أعقب ذلك بالاستيلاء على مصر سنة (65هـ=684م) وولى عليها ابنه عبد العزيز، وزوده بالنصائح الهامة، وقفل راجعًا إلى الشام، ليواصل جهوده في الزحف نحو العراق.
وقبل أن نستطرد في تفاصيل الصراع بين ابن الزبير وخصومه يجدر بنا أن نذهب إلى ما ذهب إليه كبار الفقهاء من أن بيعة ابن الزبير كانت عن رضا وإجماع من المسلمين، وترتب على ذلك أن أرسل ابن الزبير ولاته على الأمصار الإسلامية، وأبدى المسلمون رضاهم عن هؤلاء الولاة، في حين لم يبايع مروان سوى نفر قليل من أهل الشام، فضلاً عن أن بيعة ابن الزبير كانت أسبق زمنًا من بيعة مروان التي جاءت متأخرة عنها، غير أن الرجلين تمسكا بالخلافة، وإن كانت الشرعية في جانب ابن الزبير، لكنها لم تكن لتحسم الأمر وحدها، بل كان للسياسية والدهاء واصطناع الرجال دور لا ينكر في حسم الصراع وهذا ما كان.
ابن الزبير وعبد الملك بن مروان
توفي مروان بن الحكم وخلفه ابنه عبد الملك بن مروان سنة (65هـ=684م)، وكانت الشام ومصر تحت سلطانه، على حين بقيت الحجاز والعراق تحت سيطرة ابن الزبير، وفي أثناء ذلك ظهرت دعوة المختار ابن أبي عبيد الثقفي، التي اجتذبت الشيعة، وانضموا تحت لوائه، وازداد نفوذه بالعراق بعد أن هزم جيشًا أرسله عبد الملك بن مروان بقيادة عبيد الله بن زياد في معركة الخازر سنة (67هـ=686م) وبعد تلك الهزيمة توقف عبد الملك بن مروان مؤقتًا عن فكرة استعادة العراق، لعلمه أن عبد الله بن الزبير لن يترك المختار الثقفي يستبد بالعراق، وأن الصدام بينهما آتٍ لا مفر منه، فآثر الانتظار حتى يفرغ أحد الطرفين من الآخر، فيقابله وهو منهوك القوى فيضمن لنفسه الظفر والفوز، وهذا ما كان، فاصطدم مصعب بن الزبير بالمختار الثقفي وقضى على حركته سنة (67هـ=686م)، واستعاد نفوذ أخيه في العراق.
السيطرة على العراق
عزم عبد الملك بن مروان على استعادة العراق التابعة لدولة ابن الزبير، فخرج إليها بنفسه سنة (71هـ=690م) بعد أن اطمأن إلى تثبيت أركان دولته وتوطيد حكمه، وأعد جيشًا عظيمًا لهذا اللقاء الفاصل، وحين علم مصعب بن الزبير والي العراق بهذه التحركات استعد لمواجهة عبد الملك بن مروان، وقبل اللقاء الفاصل أخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق ويعدهم ويمنيهم بالمال، فاستجابوا له وانضموا إليه وتخلوا عن مصعب في أدق المواقف وأصعبها، فانهزم في المعركة التي دارت بين الفريقين عند دير الجاثليق في (جمادى الآخرة 72هـ=نوفمبر 691م)، وقتل في هذا اللقاء بعد أن بذل ما يمكنه من الشجاعة والبسالة، وبعد انتهاء المعركة دخل عبد الملك الكوفة وبايعه أهلها، ودخلت العراق تحت سيطرته وعين أخاه بشرًا واليًا عليها.
سقوط دولة عبد الله بن الزبير
كان ضياع العراق من يد عبد الله بن الزبير أكبر كارثة حلت به، في الوقت الذي قوي فيه خصمه بانضمام العراق تحت ملكه وسلطانه الذي أصبح يضم معظم أقطار العالم الإسلامي، وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز.
لم يضيع عبد الملك بن مروان الوقت في الانتظار بعد انتصاره على مصعب بن الزبير، فأعد حملة عسكرية في عشرين ألف جندي، بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، ووجهها إلى الحجاز للقضاء على ابن الزبير المعتصم بمكة الذي لم يكن بمقدوره الصمود بعد أن فقد معظم دولته، ولم يبق له سوى الحجاز، ولم تكن بطبيعة الحال غنية بالمال والرجال، لكنه لم يسلم الراية، ولم يستسلم مهما كلفه الأمر، فطبيعته وخلقه يأبيان ذلك.
توجه الحجاج إلى الحجاز، ونزل الطائف، وأخذ يرسل بعض جنوده لقتال ابن الزبير، فدارت بينهما عدة اشتباكات كانت نتيجتها في صالح الحجاج، ثم تقدم إلى محاصرة عبد الله بن الزبير ونصب المنجنيق على جبل أبي قيس، فلما أهل ذو الحجة لم يستطع ابن الزبير أن يحج، وحج بالناس عبد الله بن عمر، وطلب من الحجاج أن يكف عن ضرب الكعبة بالمنجنيق؛ لأن الناس قد امتنعوا عن الطواف فامتثل الحجاج، وبعد الفراغ من طواف الفريضة عاود الحجاج الضرب، وتشدد في حصار ابن الزبير حتى تحرج موقفه، وانصرف عنه رجاله ومنهم ابناه حمزة وخبيب اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما.
فلما رأى عبد الله بن الزبير ذلك دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر حزينًا يشكو إليها ما هو فيه من هم وحزن، فشدت من أزره، وأوصته بالصبر والثبات وعدم التراجع ما دام على الحق، فخرج من عندها وذهب إلى القتال، فاستشهد في المعركة في (17 من جمادى الأولى 73هـ=4 من أكتوبر 692م)، وبوفاته انتهت دولته التي استمرت نحو تسع سنين.
أحمد تمام5>
من مصادر الدراسة:
محمد بن جرير الطبري – تاريخ الرسل والملوك – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – دار المعارف – القاهرة – 1966م.
ابن الأثير – الكامل في التاريخ – دار صادر – بيروت – 1399هـ=1979م.
عبد الشافي محمد عبد اللطيف – العالم الإسلامي في العصر الأموي – القاهرة – 1404هـ=1984م.
علي حسني الخربوطلي – عبد الله بن الزبير – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر – القاهرة – بدون تاريخ.