هذه وقفة مع المفكر الرئيس علي عزت بيجوفيتش، رئيس البوسنة السابق، في الذكرى الثالثة عشرة لوفاته، (8 أغسطس 1925- 19 أكتوبر 2003م)؛ تستهدف إبراز بعض أفكاره من خلال مقتطفات من كلماته الحكيمة الرصينة بالغة الدلالة، من كتابه الأهم: “الإسلام بين الشرق والغرب”..

وهي مقتطفات- في موضوعات شتى- تشير إلى أهم أفكار بيجوفيتش؛ التي جاءت في صياغات غاية في التكثيف والعمق، وتصح أن تكون مدخلاً لعالَمه الرحيب، ودالّةً على فكره وأهميته.

وبيجوفيتش- كما قال عنه د. المسيري في مقدمته المطوّلة لكتابه – صاحب اجتهادات مهمة في تفسير ظاهرة الإنسان في كل تركيبيّتها.. وهو ليس “مجتهدًا” وحسب، وإنما هو “مجاهد” أيضًا؛ فهو مفكر ورئيس دولة؛ يحلل الحضارة الغربية، ويبين النموذج المعرفي المادي العدمي الكامن في علومها وفي نموذجها المهيمن، ثم يتصدى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه.. فجمع بين دور المجاهد والمجتهد، ودور الفارس والراهب”([1]).

وكتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”- بحسب مترجمه الأستاذ محمد يوسف عدس، صاحب الترجمة البديعة- ليس كتابًا بسيطًا، يمكن للقارئ أن يتناوله مسترخيًا، أو يقتحمه من أي موضع فيقرأ صفحة هنا وصفحة هناك، ثم يظن أنه قد فهم شيئًا؛ لا، إنه موجه لجمهور من خاصة القراء، يتمتعون بخلفية ثقافية عريضة وعميقة، ولهم قدم راسخة في تذوق اللغة والأدب. في عقول هؤلاء يمكن أن تتفاعل أفكار علي عزت، وأن تثمر”([2]).

معنى الإسلام

“إن الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته، ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها؛ وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه: من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني.. من قوة النفس في مواجهة محن الزمان.. من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود.. من حقيقة التسليم لله. إنه استسلام لله.. والاسم إسلام” (ص: 374).

الإسلام والحضارة

“يؤكد القرآن- على خلاف الأناجيل- أن الله خلق الإنسان ليكون سيدًا في الأرض (خليفة)، وأن الإنسان يمكنه تسخير الطبيعة والعالم خلال المعرفة والعمل فقط، أي بالعلم والفعل. من هذه الحقيقة، وبتركيز الإسلام على القانون والعدالة، يبرهن الإسلام على أنه لا يستهدف الثقافة فقط، وإنما يسعى لبناء حضارة أيضًا” (ص: 273).

الإسلام دين ودنيا.. وسياسة

“الإسلام لا يعرف كتابات دينية (لاهوتية) معيّنة بالمعنى المفهوم في أوروبا للكلمة، كما أنه لا يعرف كتابات دنيوية مجردة؛ فكل مفكر إسلامي هو عالِمُ دين، كما أن كل حركة إسلامية صحيحة هي حركة سياسية” (ص: 270).

وظيفة الصلاة

“ليست الصلاة مجرد تعبير عن موقف الإسلام من العالم؛ وإنما هي أيضًا انعكاس للطريقة التي يريد الإسلام بها تنظيم هذا العالم” (ص: 277.)

بين المسجد والكنيسة

يمكن استخلاص نتائج من المقارنة بين المسجد والكنيسة؛ المسجد مكان للناس، أما الكنيسة فهي (معبد الرب). في المسجد يسود جو من العقلانية، وفي الكنيسة جو من الصوفية. المسجد بؤرةُ نشاط دائمٍ وقريبٌ في قلب المناطق المعمورة بالسكان، أما الكنيسة فتبدو أقل التحامًا ببيئتها. يميل التصميم المعماري للكنيسة إلى الصمت والظلام والارتفاع؛ إسارةً إلى (عالم آخر). عندما يدخل الناس إلى كاتدرائية قوطية يتركون خارجها كل اهتمام بالدنيا، كأنهم داخلون إلى عالم آخر؛ أما المسجد فمن المفروض أن يناقش الناس فيه بعد انتهائهم من الصلاة هموم دنياهم. وهذا هو الفرق”(ص: 271).

ظاهرة “المسجدرسة”

“وقد نتج عن هذا الاتجاه ظاهرة لا تعرف إلا في إطار الثقافة الإسلامية، وهي ما يمكن أن يُطلق عليه “المسجدرسة”؛ وهو بناء فريد يجمع بين وظيفتَيْ المسجد والمدرسة معًا، ولا يوجد له تسمية موازية في اللغات الأوروبية. هذا البناء المتميز هو المعادل المادي أو التقني لتلك المُسلّمة الإسلامية لوحدة الدين والعلم؛ التي بدأ بها نزول القرآن نفسه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}” (ص: 296)

سبب انفصال التعليم المدني عن الديني

“لا يمكن تصنيف المدارس في العالم الإسلامي وفقًا للمعايير الأوروبية، التي تقسم المدارس إلى مدنية ودينية؛ فهذا النوع من المدارس اعتبرها المسلمون جميعًا أمرًا طبيعيًّا؛ لأنها انبثقت مباشرة من الروح الإسلامية.

وقد ظل الموقف سائدًا إلى الوقت الحاضر؛ وحيثما وُجد اختلاف فمرجعه إلى التأثير الأجنبي.

الوضع الأصلي للمدرسة يتوازى مع المفهوم الإسلامي الأساسي، الذي يوحّد بين الدين والعلم؛ فأزهر القاهرة هو أكبر وأقدم مدرسة (أنشئ سنة 972م.)، ويُشار إليه دائمًا كمسجد وجامعة؛ ولم يقتصر التعليم في الأزهر على الدين فقط إلا في أحلك فترات التدهور” (ص: 296).

القرآن والحقائق العلمية

“لا يحتوي القرآن على حقائق علمية جاهزة، ولكنه يتضمن موقفًا علميًّا جوهريًّا.. اهتمامًا بالعالم الخارجي؛ وهو أمر غير مألوف في الأديان.

الأمر بالعلم (بالقراءة) لا يبدو هنا متعارضًا مع فكرة الألوهية، بل إنه قد صدر باسم الله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.

الإنسان (بمقتضى هذا الأمر) لا يلاحظ ويبحث “طبيعةً خلقتْ نفسَها”، ولكن الكون الذي أبدعه الله. ولذلك فإن الملاحظة ليست بلا هدف أو لامبالية أو خالية من الشوق؛ وإنما هي مزيج من العلم وحب الاستطلاع والإعجاب الديني. وكثير من أوصاف الطبيعة في القرآن على درجة عالية من الشاعرية.. ويصور هذا أحسن تصوير الآيات التالية، فلنستمع إليها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164)” (ص: 289، 290).

الإسلام.. مثاليٌّ وواقعي معًا

“في الوقت الذي يؤكد فيه الإسلام على عظمة الإنسان وكرامته، يُبدي واقعيةً شديدة؛ تكاد تلغي البطولة عندما يتعامل مع الإنسان كفرد.

فالإسلام لا يتعسف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان؛ إنه لا يحاول أن يجعل منا ملائكة؛ لأن هذا مستحيل، بل يميل إلى جعل الإنسان إنسانًا.

في الإسلام قدرٌ من الزهد؛ ولكنه لم يحاول به أن يدمر الحياة، أو الصحة، أو الفكر، أو حب الاجتماع بالآخرين، أو الرغبة في السعادة والمتعة.

هذا القدر من الزهد أُريد به توازنًا في غرائزنا، أو توفير نوع من التوازن بين الجسم والروح.. بني الدوافع الحيوانية والدوافع الأخلاقية.

وهكذا- من خلال الوضوء والصلاة والصيام وصلاة الجماعة والنشاط والملاحظة والنضال والتوسّط يواصل الإسلام عمل الفطرة في تشكيل الإنسان. لا مكان هنا لمقاومة الطبيعة” (ص: 297، 298).


([1]) “الإسلام بين الشرق والغرب”، علي عزت بيجوفيتش، ترجمة: محمد يوسف عدس، تقديم: د. عبد الوهاب المسيري، ط1، دار الشروق، 2010م، ص: 9، بتصرف يسير.

([2]) المصدر نفسه، ص: 37، مع الإشارة إلى أن العناوين الفرعية هي من صياغة المقال، وليست جزءًا من الكتاب.