أكثر من 800 عام على مولد جلال الدين الرومي.. الدرويش الشاعر، العالم الصوفي الفارسي الأصل التركي الموطن، والذي يعتبر من أبرز أعلام التصوف الفلسفي في التاريخ الإسلامي وأكثرهم تأثيرا على مر العصور. ويوصف بأنه ذو رؤية تمثل رسالة عالمية تخاطب كافة حضارات العالم باعتبارها مصدر إلهام لكل الناس.
لقد سعى جلال الدين الرومي إلى الانتقال بـ التصوّف إلى مستوى اللغة والفكر، حيث الحقيقة لا يصل إليها الإنسان في عالم اليقظة من خلال الإيمان باللايقين ونسبية العقل، لذلك من الأجدى له البحث عنها في العالم الآخر في قراءة عرفانية للعالم. وقدّم الشاعر المتصوّف رؤيته في مرحلة شهدت غزو المغول للعالم الإسلامي، ما تسبّب في هجرة عائلته من مسقط رأسه، مدينة بلخ التي تقع داخل حدود أفغانستان اليوم، متجهاً إلى نيسابور ثم بغداد، ومنها إلى مكّة المكرمة لأداء الحج، ليقصد بعدها بلاد الشام، ثم قونية التي كانت إحدى حواضر الدولة السلجوقية التركية.
بداية الرحلة
تبدأ رحلتنا مع الصوفي الدرويش الشاعر قبل أكثر من ثمانية قرون، حيث ولد محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين في 30 سبتمبر سنة 1207 ميلادية، بمدينة بلخ بأفغانستان. هاجرت أسرة بهاء الدين هربا من سنابك خيول المغول الذين داهموا البلاد، ليتجه الشاب محمد مع عائلته إلى نيسابور، فيلتقي الشاعر الفارسي الكبير فريد الدين العطار، الذي يهديه ديوانه “أسرار نامه“، قبل أن يعاود أهل الشاب الذي لقب بجلال الدين الترحال إلى سوريا طلبا للهرب، وإلى مكة المكرمة رغبة في الحج، وصولا إلى الأناضول، واستقرارا في قونية حيث عمل جلال الدين مدرسا وواعظا، بعد أن تلقى العلم على يدي والده، ويدي الشيخ برهان الدين محقق من بعد وفاة والده.
وصولا إلى روحانية مبتغاه
قضى جلال الدين تسع سنوات يتتلمذ على يدي الشيخ محقق، لكن المغول الذين طردوه من بلخ، طاردوه حتى قونية، ووصلوا على مشارفها بعد أن أسقطوا السلاجقة وقتلوا الذكور جميعا في مدينة قيصرية.
ها هو العام 1244 ميلادية، وقد وصل إلى مدينة قونية منذ فترة، الشاعر الفارسي الكبير شمس الدين تبريزي، باحثا عن شخص يجد فيه خير الصحبة، وقد وجد التبريزي في الرومي ضالته، ولم يفترق الصاحبان منذ لقائهما، حتى إن تقاربهما ظل دافعا لحسد الكثيرين على جلال الدين، لاستئثاره بمحبة القطب الصوفي التبريزي، لكن شمس الدين تم اغتياله، وسواء كان القاتل تلميذا حاسدا لهذا أو ذاك، فقد قيل إن شمس الدين التبريزي سمع طرقا على الباب وخرج ولم يعد منذ ليلة شتوية باردة في ديسمبر 1248 ميلادية!
في السنوات الأربع التي صاحب فيها جلال الدين أستاذه شمس الدين، أشعل التبريزي قلب الرومي بالمعرفة والحب الإلهي، وألهمه لينظم رائعته الشعرية المكتوبة باللغة الفارسية في 27 ألف بيت في ستة مجلدات: “مثنوي”.
وبعد هذه الملحمة كتب الرومي ديوان “شمس تبريزي”، الذي أهداه إلى صاحب الخلوة الصوفية وصديق رحلته الروحية، وتضمن 40 ألف بيت من الشعر بالفارسية.
جلال الدين الرومي الشاعر
عن اللغة الفارسية ترجم الدكتور إبراهيم دسوقي شتا رائعة جلال الدين الرومي “مثنوي”، وأصدرها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، في أربعة كتب، ضمن المشروع القومي للترجمة. ومع الترجمة البديعة التي توخت الحفاظ على روح الشعر وإيقاعه، واستلهمت شروح المفسرين، والمفاهيم الفلسفية والصوفية، قدم شتا شرحا جديدا يغوص في التجربة الرومية، فيستخلص منها درها ويبوح بسرها.
يقول الدكتور “شتا” في مقدمته لهذا العمل الضخم: “إنه من قبيل الإلهام من جلال الدين أنه لم يختر اسما معينا لعمله هذا، وإنه اختار اسم الشكل الشعري الذي وضعه فيه، والذي يتكرر فيه حرف الروي في كل شطر، ويتغير من بيت إلى بيت، بشكل يتناسب مع طول الكتاب المفرط، ومن ثم فأغلب المنظومات الطولية في الأدب الفارسي (مثل الشاهنامه للفردوسي وحديقة الحقيقة للسنائي ومنظومات العطار) وضعت فيه، وأغلب هذه المنظومات في بحر الرمل المسدس، وتفعيلته الأصلية (فاعلاتن فاعلاتن فاعلن)، وهو بحر سهل في موسيقاه، قابل للغناء، مقبول للحافظة، يصلح كثيرا للشعر التعليمي، وفي الوقت ذاته يتناسب تمام التناسب مع الهياج العاطفي والوجد والحال”.
على طول المثنوي يذكر جلال الدين كتابه بهذا الاسم، ويضيف أحيانا لقب (المعنوي) عليه، فكأنه يريد من البداية أن ينبه القارئ ليبحث فيه عن المعنى، وكثيرا ما ذكر في ثنايا “مثنوي” أن المعنى هو البر أو القمح، وأن الحكايات مجرد قش يحتوي على القمح، والعالم وكل ما في العالم عند جلال الدين صورة ومعنى، والمعنى هو الذي يجب أن يكون مطلوبا، وإن لم تكن هناك مندوحة عن التعمق في الصورة من أجل الوصول إلى المعنى.
ويأتي الكتاب المترجم في أجزائه الأربعة على هيئة حكايات ذات مغزى (قش تبحث في ثناياه عن القمح)، تأخذ شكل الأسطر المنفصلة، وتحمل عناوين فرعية، مثل قصة خداع الريفي للحضري ودعوته له بضراعة وإلحاح شديدين.
قصة صوفية
ويأتي في الحكاية ما يلي: “فيما مضى، كان هناك يا أخي حضري قد تعرف على ريفي/ وعندما كان الريفي يأتي إلى المدينة كان يحط رحاله في الحي الذي يسكن فيه ذلك الحضري/ كان ينزل عليه ضيفا شهرين وثلاثة شهور، كان ملازما لمتجره ولمائدته/ وكلما كانت تعن له حاجة في ذلك الزمان، كان الحضري يقضيها له بالمجان/ فالتفت إلى الحضري وقال: أيها السيد، ألن تأتي إلى القرية أبدا متنزها؟ بالله، هلا أتيت بكل أبنائك في هذا الوقت الذي تكون فيه الرياض في بداية الربيع/ أو تعال في الصيف أوان الثمر، حتى أعقد الحزام في خدمتك/ أقبل بخيلك وولدك وأهلك، وامكث في قريتنا ثلاثة شهور أو أربعة/ ففي أوقات الربيع تكون القرية جميلة، والمزارع وزهور الشقائق تشرح الصدر/ وكان الحضري يعد تهدئة لحاله، حتى مر على الوعد ثماني سنين/ كان كل عام يقول له: متى تتحرك فإن الشتاء قد حل؟/ فكان الحضري تعلل قائلا: هذا العام سوف يأتينا ضيف من مكان كذا/ وفي العام المقبل إذا فرغنا مما يهمنا، فسوف نسرع إلى ذلك المكان/ قال القروي: إن أهلي في انتظار أبنائك يا أهل البر/ ثم يعود في كل عام كطائر اللقلق كي يقيم في قبة (مسجد) المدينة”.
وتنتهي الحكاية بأن ذلك الوعد الذي داوم ثماني سنوات لم يف به القروي، وتنكر لضيفه الحضري حين حل عليه ضيفا.
ويقول الباحث والمترجم الكبير الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا إن هذه القصة ورد شبيه لها في كتاب البخلاء للجاحظ، ويقصد بها قصة “المروزي” الذي كان ينزل عند العراقي فيكرمه أشد الكرم فيلح على العراقي في زيارته لرد بعض جميله، وفي النهاية، تعن للعراقي حاجة في مرو، لكن المروزي ينكره تماما!
ويجعل من هذه القصة بين الحضري والقروي نموذجا في التعامل مع الوقائع كمجرد خلفية لإرشاد المريدين للخوض في الأفكار السامية العالية، ويشك “استعلامي” في كون كتاب البخلاء مصدرا للحكاية ويرى أنها تقدم نموذجا بشريا للجحود والنكران يتكرر في كل عصر وفي كل بيئة، وربما قرأها في كتاب آخر أو سمعها من شيوخه أو رفاقه أو نقلها اقتباسا.
وعدا الحكايات فإن الأفكار تأتي في سياق الأحداث، وتنهال السطور الشعرية لتشكل مفارق طرق تتفتح على أكثر من تفسير، وتفضي لأكثر من اتجاه، يقول جلال الدين الرومي بترجمة الدكتور شتا:
– عندما تخطو خطوة واحدة دون احتياط، فإن لبنك ينقلب إلى دم من تخبط.
– ولقد خطا آدم خطوة واحدة في هوى النفس، فصار فراق الجنة طوقا في عنقه.
– وإنما تنبغي الخلوة عن الأغيار لا عن الحبيب، فالفراء من أجل الشتاء لا من أجل البيع.
– فالعقل مع عقل آخر يتضاعف، ومن ثم يزداد النور، ويتضح الطريق.
– والنفس مع نفس أخرى تصير ضاحكة، فتدلهم الظلمة ويختفي الطريق!
– إن الآفة الموجودة في الهوى وفي الشهوة، وإلا فإن ذلك المكان شراب سائغ للشاربين!!
– فلتغلق هذا الفم (الجسدي) لتبصر العيان، فإن الحلق والفم كمامتان أمام ذلك العالم.
– ويا أيها الفم، إنك في حد ذاتك في فوهة للجحيم، ويا أيها العالم إنك على مثال البرزخ.
– والنور الباقي (موجود) إلى جوار الدنيا الدنية، واللبن الصافي موجود إلى جوار أنهار الدم.
جلال الدين الرومي الدرويش
يحكي أن نساجا للصوف في إحدى مدن الشرق الإسلامي، سحب خيطا من بالة (بكرة خيط) فوق رأسه، وبدأ يلفها حول يديه، وأخذ يعيد المحاولة، بين يساره ويمينه، ليحول الخيوط إلى قطعة من نسيج.
كان الرجل كلما انقطع الخيط، ربط الطرف المنقطع إلى آخر جديد، واستمر وهو يسبح باسم الله موحدا في كل شوط: “لا إله إلا الله“.
انتباه الصوفي مع تسبيحه باسم الله كان يعني حضور وعيه. هذا الانتباه هو مغزى الحياة. وسلوك الصوفي يعني الوعي بنوع من حياة غير عادية، كتلك التي يمضي معظمها دون وعي منها. يقول البعض إن لفظة الصوفي تعود صفة لذلك النساج المتنسك الأول، وربما تعود لدى البعض الآخر للعباءة الصوفية التي يرتديها هؤلاء الأولياء فيما يرجعها بعض اللغويين والمؤرخين إلى الكلمة اليونانية sophos وتعني “الحكمة”! كما تصف كلمة “درويش” في بعض معانيها ذلك الصوفي الواقف على باب التنوير.
تأثر جلال الدين الرومي بالدرويش شمس الدين التبريزي، الذي كان يرتدي ملابس سوداء، ولكن الرومي أضاف على ذلك أنه كان يرقص “السيما” وهو ينشد شعره، وهي الرقصة التي عرفت باسم المولوية نسبة إلى جلال الدين الرومي، كما نعرف طرفا كبيرا من أشكالها اليوم.
كانت الرقصات تقام في حضرة جلال الدين بالتكية المولوية، ولكننا اليوم سنعبر جسر غلطة سراي، متجهين إلى أقدم محطة للقطارات في إستنابول، حيث تحولت إحدى قاعاتها بسقفها المزخرف شاهق الارتفاع إلى تكية عصرية تستقبل عرضا موسيقيا مولويا، مرت عليه أكثر من سبعة قرون ونصف القرن.
مقتنيات مولوية
في متحف أيا صوفيا، كان هناك أضخم صندوق رأيته في حياتي! واكتشفت أنه جدار أبيض يحيط بمعرض لتاريخ المولوية. تم جمع مقتنياته من متحف في قونية، وتكية في غلطة بإستانبول، ومتحف الفن التركي الإسلامي، ومتحف طوب قابيه، ومتحف فنون خط الحرف العربي. وهذا المعرض أيضا هو أحد المشاريع المصاحبة لاحتفالية القرون الثمانية على ميلاد جلال الدين الرومي.
مع الآلاف من الزوار يشبه الدوران في المتحف رقصة مولوية. استحضرت وأنا أدخل إلى ذلك المتحف الذي تشبه طرقاته حبات مسبحة عملاقة، كتلك التي تزين أحد جدرانه البيضاء، كلمات آن ماري شيمل، المستشرقة الألمانية المعروفة، وهي تقدم لكتاب شمس فريد لاندر (الرومي ودراويش المولوية):
“العشق يعني الذوبان في الذات، من أجل البعث في المعشوق، ويمكننا أن نفسر رقصة دراويش المولوية على هذا النحو. إنهم يدورون حول مركز الشمس، شمس العشق الإلهي، إنهم يذوبون كالشمعة التي تنصهر بالنار حتى تضيء حتى آخر قطرة شمع ونور، وعلينا أن نستعيد صورة الدراويش القدامى الذين كانوا يحترقون ألف يوم ويوم لكي يتطهروا برقصهم”. ثم تتذكر آن ماري شميل كلمات الشاعر فريدريش روكيرت وقد وعى سر الرومي ومغزى رقصة الدرويش فأنشد: (من يعرف قوة الدوران، يحيا بالخالق لأنه يعرف كيف يكون القتل بالعشق).
بعد نحو ربع قرن من الحظر، أقنعت حفنة من الدراويش الحكومة المحلية في قونية أنه لن يكون هناك أي ضرر لتقديم رقصة “الدوران” كنوع من التقليد التاريخي، في الثقافة التركية الجديدة.
وفي عام 1964 دعت منظمة اليونسكو المولوية إلى باريس لتبدأ أول رحلة أوروبية لهذا الطقس الساحر، وجلس سلمان طوسون وسليمان لوراس على الكرسي الأحمر لجلال الدين، فيما رقص تسعة من الدراويش على أنغام مجموعة من الموسيقيين المتصوفة. وكان ذلك الحدث بداية عهد جديد للاهتمام بالمتصوفة وبأعمال جلال الدين الرومي على الأخص.
سر السوق
حياة المرء حسبما يختزلها جلال الدين الرومي بأنها كمن أتى إلى السوق ليشتري. فمن جاء مؤمنا، كان كمن ذهب إلى السوق في وضح النهار، سيعرف ما سيتشري وفيم سينفق ماله، أما من أتي في عتمة الليل والكفر، فكمن يذهب للتسوق ليلا، ربما يدفع ماله ليشتري حبلا، فإذا هو يعود للبيت بثعبان، أو ينفق ما معه ليبتاع العسل، فإذا بالقار هو ما في جعبته.
فهل نذهب إلى السوق نهارا أم ليلا، يا مولانا، وأنت القائل: “إلى السوق كلنا جاء من أرحام أمهاتنا كي نشتري غطاء ثم نعود لقبورنا”.
في السابع عشر من ديسمبر سنة 1273 تصعد روح جلال الدين إلى خالقها، في رحيل شتائي آخر، أنقذه من ألم المرض وتشيد فوق قبره في قونية قباب خضراء مزينة بأبياته: “في يوم وفاتي، عندما يسيرون بنعشي، لا تظن أني متأمل لفراق هذا العالم، لا تبك من أجلي، ولا تقل وا أسفاه، وا أسفاه، فوقوعك في مخيض الشيطان مدعاة للأسف، وعندما ترى نعشي لا تصرخ: الفراق، فوصالي هو في هذا الزمان، ولقائي، وحين أودع القبر، لا تقل الوداع، الوداع، فالقبر هو حجاب عن مجمع الجنان”.
أشرف أبو اليزيد