لم تكن الأندلس خلال النصف الأول من القرن الخامس الهجري (11م) في وضعية تحسد عليها ، فالخلافة الأموية جسدت آخر تجربة وحدوية ، وكان سقوطها إنذاراً بظهور عصر الطوائف أو ما تسميه بعض المصادر “ أيام الفرق “ التي أصبحت فيها الأندلس نهباً لكل مغامر أنس من نفسه القوة ، ولا غرو فقد تقاسمتها شرذمة من المتربصين بالسلطان ، ممن آثروا الاستبداد بنواحيهم فأسسوا كيانات مهترئة ، وصل عددها إلى ثلاثة وعشرين دويلة. واتخذوا لأنفسهم ألقاب خلافية متعددة سخر منها ابن رشيق قائلاً:
مما يزهدني في أرض أندلس … أسماء معتصمٍ فيها ومعتضدِ
ألقاب مملكة في غير موضعها … كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ!
زد على ذلك أن الدويلات الطائفية لم تكن تتوفر على أبسط المقومات ، إذ اتسمت بأسسها الهشة ، كما أن صغر مساحتها وقلة عدد سكانها ، ظلت عاجزة عن إنجاز أي دور وحدوي، كما اتسمت بالضعف والوهن وصف ابن الكردبوس الوضع بقوله:“ ذل الرئيس والمرؤوس ، وافتقرت الرعية ، وفسدت أحوال الجميع بالكلية، وزالت من النفوس الأنفة الإسلامية“..
ومما زاد وضعية هذه الدويلات تأزماً ، إغراق نفسها في صراعات دموية زادت من هشاشتها، وهو ما عبر عنه ابن الخطيب تعبيراً رائعاً بقوله :”وجعل الله بين أولئك الأمراء ملوك الطوائف من التحاسد والتنافس والغيرة مالم يجعله بين الضرائر المترفات ، والعشائر المتغايرات“..واستمرت هذه الحالة المؤسفة ما يربو عن الثامنين عاماً كلها تفكك خطير، وانحلال واجتماعي عميق، وظل التناحر لغة التخاطب السائدة بين الملوك الطوائف.
وإزاء هذا الوضع المتردي تمكن “ ألفونسو السادس “من احتلال مدينة طليطلة ، وعرض عليه أنصاره أن يلبس التاج ، فأرجأهم إلى أن يستولي على “قرطبة“ ، بل طمع في الاستيلاء على الجزيرة كلها..و إلى جانب شبح “ ألفنسو السادس “ ، ظهرت شخصية عسكرية أخرى زادت من متاعب مسلمي الأندلس، ألا وهي شخصية السيد “ الكنبيطور “ الذي تحول من لص محترف إلى قائدجماعة من الفرسان المسيحيين المغامرين ، وأذاق الأندلسيين الهزائم المريرة ، وقد راودته أحلام استرجاع الأندلس برمتها ، خاصة أن بلاد الأندلس تكانت عيش أزمات كثيرة وتقلبات، وقد وصف ابن بسام هذا الجوَّ المفعم بالفتن والاضطرابات بقوله:“فورد وعشب بلادها ناب وظفر، وصوب عهادها دم هدر ، ومالها لا عين ولا أثر، وملوكها أضداد، وأهواء أهلها ضغائن وأحقاد، وعزائمهم في الأرض فساد وإفساد“.
وإزاء الوضع المتردي لمسلمي الأندلس برزت مواقف كثير من الفقهاء وقفوا بصمود تجاه التحديات الصليبية، ومنهم هؤلاء الفقهاء “ أبو الوليد الباجي“(403-474ه) ، فقد استغل فرصة إلقاء دروسه ومحاضراته لحث الناس على الجهاد وأذكاء الحمية الدينية والأنفة الإسلامية ، كما تجلت مواقفه أيضاً من خلال السفارات والوساطات بين أمراء الطوائف ، ودعوتهم للتوحيد والتصدي للخطر الصليبي.
لا جدال في أن النزاعات التي شجرت بين أمراء الطوائف ، وما تلاها من مواقف متخاذلة ، كان لها وقع سيء على نفسية العلامه الفقية أبو الوليد الباجي الذي بادر على الدعوة بنبذ الخلافات بغية تشكيل جبهة إسلامية متراصة قادة على قطع قطع دابر الصليبيين ، والتصدي لمشاريعهم التوسعية.. وقد ابتدأ – رحمه الله – دعوته بعد سقوط طليطلة سنة (487ه) فجال بلاد الأندلس طولاً وعرضاً إلى وحدة الصفوف ، ومحذراً من عواقب الفرقة والنزاع.
وتتضارب المصادر حول ما إذا كان أبو الوليد الباجي قد قام بمبادرته من لقاء نفسه أم أن حاكم “بطليوس““ المتوكل بن الأفطس“ قد ندبه إلى ذلك..فابن الآبار يؤكد الرواية الأخيرة بقوله:” ولما عظم عيث الطاغية أدفونش بن فردنلند ، وتطاول على الثغور ، ولم يقنع بضرائب المال ، انتدب للتطوف على أولئك الرؤساء القاضي أبو الوليد الباجي يندبهم إلى لم الشعث ومدافعة العدو ، وكلهم يصغى إلى وعظه “..بينما ذهب مؤرخون إلى تبني الرواية الأولى ، فأكدوا أن “ الباجي “ قام بدعوته الوعظية من تلقاء نفسه ، ونحن نرجح الرواية الأولى لأجماع المؤرخين عليها وتفرد “ أبن الآبار “ وحده بذكر الرواية الثانية ، كما أن الرواية الأولى أقرب إلى سياق المنطق التاريخي ، إذا لا يعقل أن يسعى الأمير“ المتوكل بن الأفطس“ وقد تمت إدانته من كافة المصادر لمساهمته في انقسام الأندلس إلى المطالبة بتوحيدها.
ومما يسترعي الانتباه أن دعوة الفقيه “الباجي“ في توحيد الجبهة الإسلامية بدأت مباشرة بعد عودته من بلاد المشرق العربي الإسلامي ، مما يعكس الظاهرة في التاريخ العربي الإسلامي، والظروف المشتركة التي استلزمت التصدي للخطر الصليبي في المشرق والمغرب على السواء.
وفي سبيل هذه القضية المطلوبة شرعاً لقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}(آل عمران: ١٠٣)، وغيرها من النصوص، فقد بذل “ أبو الوليد الباجي“ قصارى جهده، واستفرغ كل وسعه، فطاف على ملوك الطوائف مؤدياً واجب النصح للأئمة وواعظاً ومنذراً لهم من عواقب التشتت والتفرق والخلاف، ومظهراً لهم خطر عدوهم ووجوب صد العدوان، وكان الملوك يُبدون له التقدير والإجلال ظاهراً ويستبردون نزعته باطناً، وما كان ذلك ليضيره فقد أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة.
ورغم أن جهوده لم تسفر عن نتيجة عملية ، فقد نجح على الأقل في وضع أمراء الطوائف أمام الأمر الواقع ، وأشعرهم بمسؤلياتهم ، وضرورة نبذ خلافاتهم ، وتوحيد كلمتهم لمجابهة الخطر النصراني ، وفي هذا السياق يقول ابن بسام:“… على أنه لأوَّل قدومه رفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة بصلة ما انبت من تلك الأسباب، فقام مقام مؤمن آل فرعون لو صادف أسماعاً واعية، بل نفخ في عظام ناخرة، وعكف على أطلال داثرة، بيد أنه كلما وفد على ملك منهم في ظاهر أمره لقيه بالترحيب، وأجزل حظه بالتأنس والتقريب، وهو في الباطن بيتجهل نزعته ويستثقل طلعته، ، وما كان أفطن الفقيه رحمه الله بأمورهم، وأعلمه بتدبيرهم، لكنه كان يرجو حالاً تثوب، ومذنباً يتوب“.
وعملًا بالمبدأ الشرعي السابق، فلم يزل “أبو الوليد الباجي “ في سفارته بين ملوك الطوائف مجتهداً يؤلفهم على نصرة الإسلام، ونبذ أحقادهم، وجمع كلمتهم، والاستعانة بجيش المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين لصد العدو الصليبي حتى وافاه أجله قبل تمام غرضه وتحقيق رغبته، وفي ذلك يقول المقري:”ولما قدم من المشرق إلى الأندلس بعد ثلاثة عشر عاماً ، وجد ملوط الطوائف أحزاباً متفرقة ، فمشى بينهم في الصلح وهم يجلونه في الظاهر ، ويستنقلونه في الباطن ، ويستبدون نزعته ، ولم يفد شيئاً فالله تعالى يجازيه على نيته “.
هذا، وإن اشتغال “ أبي الوليد الباجي “ بالمهام القضائية والأمانات والسفارة بين ملوك الطوائف لإصلاح ذات البين لم يَثْنِهِ عن نشر العلم والمعرفة والتدريس والتأليف، فلقد ترك –رحمه الله– آثاراً علمية نافعة، وثروة وافرة قيمة من الكتب والرسائل في مجالات شتى وفنون متنوعة جمعت بين المنقول والمعقول، والرواية والدراية، تشهد له بالمعرفة، وسعة علمه، ومكانته الراقية بين علماء زمانه.
توفي العلامة “ الباجي “ بمدينة “المَريَّة“ من ليلة الخميس ـ بين العشائين ـ في التاسع عشر (١٩ رجب من سنة ٤٧٤ﻫ) عن عُمْرٍ يناهز الواحد والسبعين سنة، رحمه الله ورحم المسلمين أجمعين.
المصادر والمراجع:
– ابن الآبار: الحلة السيراء ، القاهرة:1963م.
– ابن الكردبوس :تاريخ الأندلس، مدريد:1971م.
– ابن الخطيب:أعمال الأعلام – القسم الخاص بالأندلس ، بيروت:1956م.
– ابن بسام :الذخيرة ، الدار العربية للكتاب، ليبيا – تونس :1978.
– الذهبي :سير أعلام النبلاء،مؤسسة الرسالة،ط3، بيروت، لبنان:1405هـ/1985م.
– المقري “نفح الطيب دار صادر، بيروت ، لبنان:1997.
– اشباخ:تاريخ الأندلس على عهد المرابطين والموحدين،الترجمة العربية، طبعة تونس ليبيا:1978م.
– سعدون نصر الله:دولة المرابطين في المغرب والأندلس:عهد يوسف بن تاشفين، بيروت:1985م.