سئل أفلاطون عن الحياة فقال: “أتيت إليها مضطرا، وعشت فيها متحيرا، وها.. أنا أخرج منها كارها، ولم أعلم فيها إلا أننى لا أعلم”..

تلخص هذه المقولة العميقة حياة “أفلاطون”، وكذلك القلق الوجودي للإنسان المعاصر خاصة الغربي، فالحيرة مازالت تحكمه، وتساؤلات الفلسفة الكبرى منذ عشرات القرون مازالت مطروحة عليه، وألغاز الحياة والوجود عصية عليه، فالفيلسوف مهما كانت قوة عقله وعمق تفكيره، وامتلاكه لأدوات المعرفة لن يصل بمفرده إلى الفكرة المكتملة والنقية والكاملة عن الخالق،سبحانه وتعالى، فلابد من النبوات لتوضيح وكشف تلك الحقيقة العظيمة، وما يرتبط بها من قضايا كبرى.

الخالق-سبحانه- ليس غائبا عن كونه، حتى يترك لأي أحد أن يتحدث نيابة عنه، وربما هذا ما وقع فيه الفلاسفة الكبار (سقرط-أفلاطون- أرسطو)، في حديثهم عن الإلهيات بكلام فيه ما يتفق مع ما جاءت به الأديان، في تعظيم الخالق، والحديث عن قدرته، لكن أفكارهم ظلت مشوشة مضطربة في رسم تصور متكامل عن الإله، وامتد هذا الاضطراب والتشوش عبر التاريخ الإنساني الذي اقتصر على العقل فقط، بعيدا عن النبوات.

ويعد “أفلاطون” من أكبر الفلاسفة الذين أثروا في الفكر الإنساني عبر تاريخه الطويل، ويحتاج فهم الغرب إلى معرفة الأسس الفلسفية التي يقوم عليها الفكر الغربي، وأهم الفلاسفة الذين سرت رؤاهم في العقل الغربي منذ الاغريق واليونان وحتى العصور الحديثة، وفي هذا الإطار جاء صدور العدد (21) خريف 2020، من مجلة “الاستغراب” في 282 صفحة، ومحور العدد “أفلاطون في أمر اليوم”، ويهدف إلى فتح النقاش حول “أفلاطون” خاصة في حديثه عن الإلهيات والأخلاق والسياسة، والذي تكاد أفكاره أن تتحول إلى ثوابت لا تقبل النقد أو المراجعة، والمراجعة تكشف عن اختلالات تأسس عليها الفكر الغربي خاصة في جانبه الاعتقادي.

أحدث الفلاسفة اليونانيون الكبار (سقراط، وأفلاطون، وأرسطو) تطورا في النظر الفلسفي، إذ تحول الفكر اليوناني من النظر في مشكلات الطبيعة وما ورائها إلى الارتباط بقضايا بالإنسان ومشكلاته، وبحسب مقولة الفيلسوف “شيشرون” فإن “سقراط هو من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض”، أما أفلاطون فتصور أن المبدأ الأول للأشياء لا يمكن أن يكون ماديا، ولابد أن يكون روحيا مثاليا، وتغلغل هذا التصور المثالي للإله أو الصانع الأول في كل فلسفته، فجعل لكل مظهر مادي روحا خفية، حتى إنه جعل للأرض نفسا.

تزامنت حياة أفلاطون مع ظهور الدين اليهودي، حيث زار مصر في تلك الفترة، وتأثر ببعض تصورات اليهودية عن الإله، لكن بقي التصور الأفلاطوني عن الإله والتوحيد مشوشا متأثرا بالأفكار والتصورات اليونانية الوثنية، فالمعتقدات الإغريقية الدينيّة كانت مشوبة على الدوام بالأساطير، ففي اليونان القديمة كان الدين الإغريقي دينًا أسطوريًّا، وبالرغم من حديث أفلاطون عن الإله الواحد والصانع الأول، إلا أنه لم يقترب من تنزيه التوحيد، فتحدث عن إله عظيم، وآلهة آخرى ثانوية تساعده.

تحدث أفلاطون عن الفن، وكان المعيار الأكبر للفن عنده هو الأخلاق، فالأخلاق تلعب دورا تهذيبيا وتربويا في الفن، والتهذيب فوق اللذة، والجمال الحقيقي هو جمال الحق والخير، فالفن له تأثير على السلوك البشري، شريطة أن يكون في خدمة الأخلاق وترقيها، فيقول:”إن كل الفنون ذات الشأن تستلزم المناقشة، وإمعان الفكر في الطبيعة وفي السماء، وبهذا تحصل على السمو الفكري والكمال الصحيح”، فالقيمة العليا لكل الفنون والعلوم هو مقدار ما تحققه للنفس البشرية من فضيلة وإصلاح وتهذيب، لذا استبعد أفلاطون بعض الفنون من جمهوريته المثالية، واستبقى فنونا أخرى، منها الموسيقى والشعر الملحمي الذي يمجد الفضيلة.

واهتم أفلاطون بالدين وبضوابط العقيدة الدينيّة، وضرورة الرقابة على ممارسة الشعائر الدينيّة؛ فالدين يجب أن يخضع عمومًا للنظام والرقابة وعلى ذلك يحرم أي نوع من العبادات الدينية الخاصة، ويحرم إقامة الشعائر إلا في معابد عامة على أيدي الكهنة الرسميين المرخص لهم بذلك، ورأى عقاب الملحدين المهرطقين.

لذلك كانت أخلاق أفلاطون وفلسفته ذات حيرة، يغلب عليها التساؤل دون أن تنقذها الإجابات عن حقيقة الإله الواحد، وهو قلق استمر بعده في الفلسفات المتعاقبة، وربما أثر ذلك في الفلسفة الغربية الحديثة التي فصلت بين الخالق-سبحانه- وبين العالم، وربما كان أقصى ما طمحت إليه الفلسفة الأفلاطونية في الإلهيات هو الحديث عن إله أرضي، والذي ربما ظهر فيما عرف بـ”الدين الطبيعي” الذي تحدث عنه “ديفيد هيوم” عام 1779م، فالإيمان بالإله الواحد وتنزيهه يكفي لإسكات حيرة الفيلسوف، لذلك كان ابن القيم” يقول:”العلم بالله أصل كل علم.