قال الرسول ﷺ: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وفي رواية: إلا من ثلاثة-: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية)، العلم الذي ينتفع به ينقسم إلى قسمين: إما علم بثه في صدور الرجال وأوصله إليهم، فيتناقله الناس وما يزال ينمو له، ويزداد أجره بحسب من استفاد منه.
وإما أن يكون المقصود أن يقف أوقافاً على طلبة العلم، كما فعل ذلك الخلفاء الراشدون، وفعله كثير من أئمة الإسلام في مختلف العصور، ومن أجل ذلك قامت المدارس الوقفية في أكثر بلدان الإسلام، ففي دمشق وحدها وصل عدد المدارس الوقفية التي ليس للناس عليها سلطة وإنما يسيطر عليها العلماء وطلاب العلم في أيام النووي رحمه الله تعالى إلى قرابة السبعين في مدينة دمشق وحدها، وقد كانت دمشق من عواصم الإسلام، ومنها (دار الحديث) التي تعلم فيها النووي وابن الصلاح، وغيرهما من كبار الأئمة، وكذلك منها (الصالحية) التي تعلم فيها آل قدامة وابن تيمية وغيرهم، ومدارس أخرى كثيرة جداً اشتهرت في ذلك الوقت، وكذلك في مصر اشتهر عدد كثير من المدارس الوقفية التي كانت مستقلة تمام الاستقلال، فلا يتأثر فيها العلماء ولا طلاب العلم بأية مواقف أخرى، وإنما كانوا ينفردون لطلب العلم ويجدون ارتزاقهم من هذه الأوقاف، فيعلمون الغرباء ويرجع هؤلاء الغرباء وافدين إلى بلادهم بما حملوه من هذا العلم؛ تحقيقاً لقول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
ولاشك أن العلم الذي يبث في صدور الرجال ذو منزلة عالية؛ لأنه لا ينتفع به أحد مدة هذه الدنيا إلا كتب لمن نقله أجراً، ومن أجل هذا ازداد فضل السلف على الخلف، فكلما ازداد خلف هذه الأمة ازداد أجر وشرف سلفها؛ لأن أجورهم تتضاعف فتضرب في أعداد اللاحقين إلى يوم القيامة؛ فأجور هذه الأمة كلها في ميزان حسنات رسول الله ﷺ، ثم دون ذلك في ميزان حسنات أصحابه الذين بلغوا هذا العلم، ونقلوه عنه، ثم دون ذلك في ميزان حسنات التابعين، وهكذا طبقة طبقة حتى يصل ذلك إلينا، ثم إلى ما شاء الله بعدنا.
وفي هذا يقول شيخي رحمه الله: وكل أجرٍ حاصلٍ للشهداء أو غيرهم كالعلماء والزهاد حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا مع مزيد عدد ليس يحد وليس يحصي عده إلا الأحد إذ كل مهتدٍ وعامل إلى يوم الجزاء شيخه قد حصل له من الأجر كأجر العامل وضعف ذا من ناقص وكامل وشيخ شيخه له مثلاه وأربعٌ لثالث تلاه وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عالي المرتبة ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف فمن أجل هذا حرص الناس على أن يحملوا ويبلغوا ما حملوه؛ فإن من بلغه علم عن الرسول ﷺ فهو خليفة رسول الله ﷺ في ذلك الجزء الذي بلغه من الدين، ومن هنا يتشرف بخلافة الرسول ﷺ في ائتمانه على ما بلغه، ولو كان آية واحدة فعليه أن يسعى لتبليغها، وقد وعده الله على ذلك الأجر الكثير، فقد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: (بلغوا عني ولوا آية)، وثبت عنه أنه قال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فرب مبلغٍ أوعى من سامع)، وثبت عنه ﷺ متواتراً أنه قال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فربّ حامل علم ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه) .