جاءت هذه الآية الكريمة ﴿أليس الله بكاف عبده﴾ تسلية للنبي الكريم ﷺ وتقوية لنفسه مما يلقاه من المكذبين، ويتناقله المشركون، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يهددونه، وزعمهم أن آلهتهم التي يعبدونها من دون الله أنها ستضره ﷺ، فقد نقل بعض المفسرين: أن كفار قريش كانت خوفته من الأصنام، وقالوا يا محمد أنت تسبها ونخاف أن تصيبك بجنون أو علة، فنزلت الآية في ذلك. واتفق المفسرون أن المقصود هنا بـ (عبده) هو النبي ﷺ، ويدخل في الخطاب جميع الأنبياء والمؤمنين الذين هم من عباد الله، بدليل قراءة (عباده). وهذه الآية دليل واضح على ضمان عصمة الله تعالى للنبي ﷺ.
قال القرطبي: وذلك أن قريشا خوفوا النبي صلّى الله عليه وسلم مضرة الأوثان فقالوا له: أتسب آلهتنا لئن لم تنته عن ذكرها لتصيبنك بالسوء.
ومعلوم أن أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه لا يخافون غير الله، ولا سيما الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع ..
لذلك قال تعالى في هذه السورة الكريمة، مخاطبًا نبينا – ﷺ -، بعد أن ذكر تخويفهم له بأصنامهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)﴾ [الزمر: 38]
ومعلوم أن الخوف من تلك الأصنام من أشنع أنواع الكفر والإِشراك باللَّه.
وقد بين جل وعلا في موضع آخر، أن الشيطان يخوف المؤمنين – أيضًا – الذين هم أتباع الرسل، من أتباعه وأوليائه من الكفار، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175] [أضواء البيان 7/62].
وقد بدأت الآية بصيغة الاستفهام (أليس) وهو استفهام إنكاري للتأكيد في الإثبات، ويفيد إثبات رعاية الله تعالى لنبيه وحفظه، وإنكار مزاعم الكافرين الذين يخوفون النبي ﷺ بقوة معبودهم وتأثيره على الرسول ﷺ، بل ويخوفونه بأنواع العذاب والتهديد والوعيد، وأنه مهما حاول الجاهلون والمبطلون على إيذاء النبي ﷺ وتوعدوا بذلك، وسعوا وبالغوا واجتهدوا في إلحاق الضرر به – وهو الأمر الذي يتجدد ربين حين وآخر، يتعرض الكفار وأعوانه على جناب النبي ﷺ – فإن الله ضامنه بالكفاية والرعاية والعصمة.
استدل بهذه الآية الرازي فقال: جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة، فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى ﴿أليس الله بكاف عبده﴾ وذكره بلفظ الاستفهام والمراد تقرير ذلك في النفوس والأمر كذلك، لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات غني عن كل الحاجات فهو تعالى عالم حاجات العباد وقادر على دفعها وإبدالها بالخيرات والراحات، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء ذلك المراد، وإذا ثبت هذا كان الظاهر أنه سبحانه يدفع الآفات ويزيل البليات ويوصل إليه كل المرادات”.
وقوله تعالى (كاف) هنا اسم فاعل من الكفاية، والكافي هو الحسيب والحافظ، والدلالة هنا على العصمة والتأييد المطلق، وهذا الامر بلغ من الظهور لا يتأتى لأحد إنكاره.
والمعنى أليس الله- تعالى- بكاف عبده محمدا صلّى الله عليه وسلم من كل سوء؟ وكاف عباده المؤمنين الصادقين من أعدائهم؟ بلى إنه- سبحانه- لعاصم نبيه صلّى الله عليه وسلم من أعدائه، ولناصر عباده المتقين على من ناوأهم [تفسير الطنطاوي].
قال ابن عاشور: أن الله الذي أفردته بالعبادة هو كافيك شر المشركين وباطل آلهتهم التي عبدوها من دونه. [التحرير والتنوير]
وقد سبق في قراءة حمزة وغيره (عباده) على الجمع، لتكون كفاية الله تعالى لعباده الأنبياء والمؤمنين عامة، فلا يصل إليهم أي مكروه ولا محظور إذا التزموا بالطاعات واتقوا الشبهات.
قال ابن رجب: “فمن قام بحقوق الله عليه فإن الله يتكفل له بالقيام بجميع مصالحه في الدنيا والآخرة، ومن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليراع حقوق الله عليه، ومن أراد ألا يصيبه مما يكره فلا يأت شيئا مما يكرهه الله. كان بعض السلف يدور على المجالس ويقول: من أحب أن تدوم له العافية فليتق الله”.
وأتى باللفظ الظاهر في (عبده) للتعبير عن النبي ﷺ مع أنه يمكن الإتيان بضمير الخطاب لأن الكلام موجه للكفار المنكرين لدعوة النبي والساعين في إيذائه بالتخويف والتهديد، يقول ابن عاشور:
“ووقع التعبير عن النبي ﷺ بالاسم الظاهر وهو عبده دون ضمير الخطاب لأن المقصود توجيه الكلام إلى المشركين، وحذف المفعول الثاني لكاف لظهور أن المقصود كافيك أذاهم، فأما الأصنام فلا تستطيع أذى حتى يكفاه الرسول ﷺ. والاستفهام إنكار عليهم ظنهم أن لا حامي للرسول ﷺ من ضر الأصنام. والمراد ب عبده هو الرسول ﷺ لا محالة وبقرينة ويخوفونك.
وفي استحضار الرسول ﷺ بوصف العبودية وإضافته إلى ضمير الجلالة، معنى عظيم من تشريفه بهذه الإضافة وتحقيق أنه غير مسلمه إلى أعدائه”. [التحرير والتنوير]