ليس من شك في كون “إبليس” أحد أهم وأقدم الشخصيات التي أثـَّرَت في التاريخ الإنساني، وأثـْرَت الوعي العقدي والأخلاقي لدى بني آدم على امتداد مراحل تاريخهم، ببساطة يمكننا تصور حال البشر، لو لم يَعرف الشر حياتهم، ولم يكن له صيغة مطلقة يتجسد فيها، إذن لما كان بوسع الإنسان أن يدرك حقيقة الخير ويتعرف عليه، ولما استطاع أن يفرق بينه وبين ما عداه.
كانت ستتداخل الحدود بين الخير والشر، وتصير مائعة بعيدة عن الوضوح، ويصبح الإنسان غير قادر على تمييز الشر، ومصدره على نحو واضح دقيق، فنحن مثلاً قد لا نستطيع أن نميز بين درجات الرمادي، وبين اللون الأبيض القريب إليها، ولكن حين نضع مساحة من اللون الأسود الحالك بين هذا وذاك، لحظتها فقط نتبين الفرق.
كان هذا وما يزال هو دور إبليس في حياتنا نحن البشر، والمساحة السوداء التي صنعت التباين الهائل بين الخير والشر في حياتنا، وعلمتنا قيمة الخير حين أسفرت لنا عن دمامة الشر وقبحه، وحملتنا على انتظار طلوع الصبح حين أطبقت علينا بقطع الليل المظلم فعلمنا حقيقة النور وخبرنا عمله.
يناقض الخير
كلمة “إبليس” في لسان العربية؛ تنطوي على إيقاع كإيقاع كلمة “إبريق” و”إكليل”، وإن كان قد اختلف على أصلها فيما لو كانت عربية أو أعجمية؛ فإنه من الظاهر بعد الرجوع إلى معاجم اللغة، أن الكلمة عربية انصرفت من “بـَلـَسَ” و”أبلـَسَ” وكلتاهما تقع في المعاجم بمعنى واحد تقريباً، وهو الرجل الذي قل خيره أو الذي لا خير عنده.
وتأتي “أبلس” كذلك بمعنى انكسر وحزن، فضلاً عن أنها تعني في العربية يأس من رحمة الله، وفيما سوى المعنى الأخير، فإنه من الواضح الجلي أن الكلمة في اللغة العربية؛ ترمي إلى ما يناقض الخير وصفاً وعملاً.
ومن الطريف أن قصة إبليس قد بدأت بخلاف قائم على أساس عنصري، تماماً كبعض الخلافات التي نشأت بيننا نحن البشر حديثاً، وامتدت إلى ممارسات بشعة من العبودية والاضطهاد ومن ثم الحروب والثورات، وحمامات من الدماء لا تتوقف، ولا يتوقف من ورائها إبليس عن مكائده وتدابيره التي نجحت في كثير من الأحيان، رغم أنه لم يحاول قط أن يستتر، فلم يدّع ِالنبوة، ولم يتشح بثياب المصلحين.
حيثيات العصيان
لقد طـُرِد إبليس من رحمة الله؛ حين عصى أمراً مباشراً منه سبحانه، كِـبراً وعناداً، وجهراً دونما مواربة أو تحايل. وكلنا يعرف تفاصيل ذلك المشهد، غير أن إبليس في دعواه العنصرية كان يستند إلى حيثية نابعة من الواقع، بغض النظر عن صحتها من عدمه، وهو ما حكاه القرآن حين قال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ* قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قال إنا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).
إبليس كان يرى أن النار خيرٌ من الطين، وأنه لا يجوز أن يسجد كائن مخلوق من النار لكائن مخلوق من الطين. ولعلها مفارقة تدعو للتأمل أنه حين أرد المفاضلة في هذا المقام بالذات استخدم كلمة “خير”. لقد كان إبليس يرى في نفسه خيراً، يفوق ما يمكن أن يكون لدى آدم ذلك الذي خُلق من صلصال..!
من أجل ذلك فقد نهى الله عباده، في كتابه الخاتم (القرآن)، المنزل على النبي الخاتم (محمد) ﷺ؛ أن يتخذ أحد موقف إبليس حين أبى أن يسجد، وزعم أنه خير من آدم، فقال تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
عنصرية قديمة
وقد طرد إبليس من رحمة الله نتيجة عنصريته، وتجلى لنا هذا واضحاً إذا نظرنا إلى موقفه بعين إنسان القرن الحادي والعشرين، وقد كان يجد الحيثية التي يقيم عليها دعواه كما أسلفنا، تمكن على نحوٍ ما من التسويق لنفس الفلسفة التي تبناها في بدء الخليقة، بين البشر أنفسهم..!
وهذه المرة بالاستناد إلى حجج أضعف بكثير من تلك الحجة التي ساقها في أول الزمان، ربما أراد أن يرضي غروره أو أن يثبت لنفسه صواب رأيه، أو صواب مقولته التي تبجح بها في حضرة خالقه حين رد قائلاً: “أنا خيرٌ منه”.
فإذا كان إبليس قد رفض السجود لآدم؛ لأنه من عنصر آخر غير الذي خلق منه إبليس، فهاهم بنو آدم أنفسهم، يسحق بعضهم بعضاً ويريقون دماء بعضهم البعض، دون أن يكون هناك اختلاف في العنصر أو حتى في الطينة التي خلقوا منها، بل هو مجرد اختلاف ألوان وأجناس.. “فأينا خير من الآخر..؟” لعله يطرح هذا السؤال بينه وبين نفسه..!
على هذا النحو اختار إبليس -أو أيًّا كان اسمه قبل خلق آدم- طريقه عبر عمر البشرية المديد منتقماً من ذلك الذي خُلق من طين، وتسبب في طرده من الملأ الأعلى كما يرى.. متنازلاً عن مصيره الأخير ليكون خلوداً في جهنم، مع من تمكن من غوايتهم من أبناء آدم على مدار التاريخ، ومحاولاً أن يثبت لنفسه أنه حقًّا كان خيراً منهم.
نعم.. فهم الذين اتبعوه وساروا من ورائه مختارين، دون أن يكون له عليهم سلطان، وعبدوا من دون الله آلهةً، وعصوه كما عصاه هو في مشهد البداية، فلا فضل لأحد على الآخر إذن.
باب الرحمة
إبليس.. الذي نسي حين عصى ربه أن هذا الرب الواحد؛ هو الذي خلق كلاًّ منه ومن آدم وهو الذي يعلم حقًّا أيهما خير: النار أم الطين، آدم أم إبليس. نسي أيضا أن الله قد طرده هو وحده من رحمته؛ بينما وسعت رحمته توبة أبناء آدم جميعاً؛ إن أرادوا أن يعودوا إلى ربهم مختارين، كما عصوه مختارين.
إن كل إنسان من ولد آدم قادر -ما دام حيًّا- أن يعود إلى الله، ويرتمي في أحضان رحمته؛ مهما بلغت ذنوبه، فليس بينه وبين الإيمان والعودة إلى الإله الواحد الحق من حائل أو مانع، وليس للشيطان عليه من سبيل إلا أن يوسوس له بمعصية جديدة، وهو من بعدها كذلك قادر أن يتوب إلى ربه.
حين طـُرد إبليس من رحمة الله، وسأل الله أن ينظره إلى يوم القيامة؛ فأجابه لما سأل، وأطلق إبليس تحديه، وتوعد بني آدم الذين أشهر عداوته لهم، وقد حكى القرآن هذا المشهد قائلاً: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآَتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ* قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ).
ولعل هذه الكلمات التي تحدى بها إبليس ربه، وتحدى بها عباده؛ صارت اليوم أشد ما يثير غيظه ويقتله كمداً؛ حين يسمع بني آدم يقرؤونها آيةً في القرآن الكريم، فتحتسب لهم بكل حرف عشر حسنات، قربة إلى الله جل وعلا، إنه أعظم وأجل رد سماوي على تحديه لله تعالى في ذلك المشهد، الذي ولد فيه عنوان الشرور في حياة الإنسانية.
أحمد القطب5>