تتكرر بين الحين والآخر دعوات فيها إساءة للإسلام و للنبي محمد ﷺ، إما بتعمد نشر رسوم مسيئة للرسول الكريم بدعوى الدفاع عن حرية الرأي والتعبير أو التعرض لشخصه الكريم وسيرته العطرة بالتشويه. وفي مواجهة هذا الوضع تعددت الأساليب والأدوات في الرد على هذه الإساءة، ويكفينا وعد الله إزاء المسيئين لجناب رسول الله تعالى حين قال: { إنا كفيناك المستهزئين } الحجر : 95.
وبطبيعة الحال فإن كل مسلم مخلص يسأل عما يجب فعله في هذه الحالة، وكيف يمكن وقف الاستهزاء برسول الله عليه الصلاة والسلام، وكيف يكون الرد الحقيقي على هذا التحدي، وكيف نعاقب المتسببين في ذلك، وهل يمكن القضاء نهائيا على الإساءة للرسول ﷺ؟
وعلى هذا الأساس فقد دعا البعض جموع المسلمين في العالم أن يجعلوا التعبير عن غضبهم المشروع لـ مقام رسول اللهﷺ في صورة إيصال أخلاقه وتعاليمه السمحة وصورته المشرقة للعالمين، فيما شدد آخرون على ضرورة اتخاذ كافة الإجراءات القانونية لمنع تكرار تلك الإساءات في حق المقام النبوي الشريف، وذهبت فئة أخرى من المسلمين إلى التأكيد على أن أضعف الإيمان في الرد على الإساءة والاستهزاء بنبي الله هو مقاطعة بضائع الجهات أو الدول المتسببة في هذه الإساءة.
لو نظرنا إلى القرآن الكريم وسيرة الرسول محمد ﷺ، وسيرة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، وفي تاريخ الحضارة الإسلامية ، فسيتضح لنا تماماً أن الإسلام قد وضع حلاً لهذه المشكلة، حيث واجه المسلمون حالات مماثلة مرات عدة. لقد حافظ الإسلام على العقيدة بأحكام كثيرة، وقد منعت هذه الأحكام بفاعلية محاولات النيل من الإسلام أو المساس بمقدسات المسلمين على مر القرون، ليس فقط داخل حدود الدولة الإسلامية بل أيضا على أراضي الدول الأخرى.
وجدير بالذكر أن الرسول ﷺ قد تحمل صنوف الأذى في حياته وبعد مماته، من الاستهزاء والاعتداء المادي على شخصه. فمنهم من ألقى على ظهره أمعاء الشاة وآخر وضع الشوك في طريقه، وثالث وضع القمامة عند باب بيته، ورابع حثى على رأسه الشريفة التراب. واليوم، يمتلئ العالم كُرها للإسلام ولنبيه الكريم، فصارت الإساءة إلى الرسول محمد ﷺ أمرا متكررا، وصار اضطهاد المسلمين بسبب إسلامهم أمرا طبيعيا في العديد من دول العالم.
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
ومن بين آيات الله العزيز الحكيم في تفسير مثل هذه الحالات قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين) (الحجر:94،95). وفي تفسير القرطبي قوله تعالى: { فاصدع بما تؤمر } أي بالذي تؤمر به، أي بلغ رسالة الله جميع الخلق لتقوم الحجة عليهم، فقد أمرك الله بذلك. والصدع: الشق. وتصدع القوم أي تفرقوا..وقوله تعالى : { وأعرض عن المشركين } أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم ، فقد برأك الله عما يقولون .
ويقول تعالى لنبيه في هذه الآية بلا تخف أحدا غير الله عز وجل فإن الله كافيك من عاداك كما كفاك المستهزئين. ومن سنة الله فيمن يؤذي الرسول، ﷺ، أنه إن لم يجاز في الدنيا بيد المسلمين، فإن الله سبحانه ينتقم منه ويكفيه إياه، والحوادث التي تشير إلى هذا في السيرة النبوية وبعد عهد النبوة كثيرة.
ومن عقيدة أهل السنة أن من آذى الصحابة ولاسيما من تواتر فضله فإسلامه على شفا جرف هار، يجب ردعه وتأديبه، فكيف بمن آذى نبيا من الأنبياء، فكيف بمن آذى محمداً ﷺ؟ { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً } (الأحزاب:57).
وفي التعبير عنهم بوصف (المستهزئين) في قوله { إنا كفيناك المستهزئين } إيماء إلى أن قصارى ما يؤذونه به الاستهزاء.. فقد صرفهم الله عن أن يؤذوا النبيء ﷺ بغير الاستهزاء. وذلك لطف من الله برسوله ﷺ. ومعنى الكفاية تولي الكافي مهم المكفي، فالكافي هو متولي عمل عن غيره لأنه أقدر عليه أو لأنه يبتغي راحة المكفى. والمراد كفيناك الانتقام منهم وإراحتك من استهزائهم.
والقصة في سبب نزول الآية وإهلاك الله لهؤلاء المستهزئين واحدا واحدا معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير وهم على ما قيل نفر من رؤس قريش: منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسودان ابن المطلب وابن عبد يغوث، والحارث بن قيس.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ
وليس نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بدعاً من الرسل المسخور بهم، بل جعل له ربه سلوة في إخوته الأنبياء، إذ لم ينفك أحد منهم من هزء عداته وسخريتهم، { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } (الأنعام:10).
ومع أن الاستهزاء كان الأسلوب الأبرز مما سلكه الطغاة وكثر امتطاؤهم صهوته – سيما حال ضعف المسلمين -، إلا أن الله – جل شأنه – قد كفى نبيه – ﷺ – وَضَرَ ذلك الاستهزاء وأهلِه.
إن كفاية الله نبيَّه كيدَ المستهزئين ذو عموم يتخطى تطاول الحقب وتنوع الأعداء واختلاف البقاع وتنوع أسلوب السخرية وحجمِها والدافعِ إليها، إذ إن رسالته ختام الرسالات، وقد تكفل الله بخلودها إلى أن يرث الأرض ومن عليها، فلا يمكن لسخرية عدو أن تعارض خلوداً أراده الله وتكفل به. كما أن حكمة الله ورحمته تأبى أن يكون لهذا الهزؤ أثر في تجفيل الناس عن اتباع الحق الذي جاء به نبيه – ﷺ -، أو بقاءٌ تُشوه به شريعة الله. وكذلك، فإن عفن السخرية يذهب هباءً إزاء رفعة ذكر النبي ﷺ.
ومن صور كفاية الله نبيه استهزاء المستهزئين: تجديد محبته في قلوب المؤمنين مع كل حدث إساءة، لتكون تلك الإساءة جمراً يتضوع به طيب محبة النبي – ﷺ – الكامن في قلوب المؤمنين، فيفوحَ مسكاً تطيب به أنحاء المعمورة. وما نراه اليوم من هبة لجموع المسلمين في كامل أنحاء العالم لنصرة نبيها والدفاع عنه إنما جزء من الوقوف في وجه الإساءة والظلم والاستهزاء. فعلى الرغم من كفاية الله نبيَّه سخريةَ المستهزئين، إلا أن واجب نصرته وتعزيره لاحقٌ كلَّ مسلم بما يطيق، ولا يتحقق الفلاح إلا بذلك، {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (الأعراف:157).
ولقد تعهد الله عز وجل بنصرة نبيه ﷺ ورعايته، ودفع كل إساءة أو افتراء عنه ﷺ، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]، وعلى نحوه يقول: (إنا كفيناك المستهزئين).
ويسأل بعض الناس: ما معنى أن الله عصم نبيه من الإساءات، وكفاه المستهزئين، والإساءات تتكرر ضد سيدنا رسول الله ﷺ؟ والجواب أن معنى أن الله يعصم نبيه من الناس وأن الله كفاه المستهزئين معناه أن إساءاتهم وافتراءاتهم باطلة المفعول لا تؤثر على النبي ولا على دعوته ورسالته. فلا تتحقق مقاصدهم، بل تتأتى النتائج بعكس ما خططوا له، حيث تُلْفِت هذه الافتراءات الانتباه، وتثير حب التعرف على هذه الشخصية فإذا بهم يحسنون من حيث أرادوا أن يُسيئوا، وإذا بهم يقفون على الحقيقة عندما يطلعون على عظيم خلقه ورحمته ورأفته ﷺ، مما يدفعهم إلى الإيمان به أو على الأقل احترامه وتقديره.
وعلى العموم فإن قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الحجر: 95-96)، تدل على أن أولئك المستهزئين بالنبي الكريم، ومع كونهم كانوا من أكابر القوم وكان لهم فيهم قوة وشوكة ورياسة، فإذا كفاه الله أمرهم -وقد أهلكهم الله جميعا- كفاه أمر من هو دونهم بالأولى .
وهذا وعدٌ من الله لرسوله أن لا يضره المستهزئون، وأن يكفيَه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل – تعالى – فإنه ما تظاهَرَ أحدٌ بالاستهزاء برسول الله – ﷺ – وبما جاء به، إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة، قال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 137)
وانظر لمن عادى النبي عليه الصلاة والسلام وآذاه كيف كانت نهايته في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (الكوثر: 3)، وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} (الأحزاب: 57).
نسأل الله أن يعجل بالانتصار لنبيه ﷺ، وأن يعز الإسلام وأهله.