ظهرت يقظة المصلحين ورجال العلم في الجزائر، كما ظهرت طبقة من المثقفين يؤمنون بضرورة الإصلاح الديني الشامل بوصفه الأساس في بناء الدولة والعمران، فأدى ذلك إلى الحد من انتشار ادعاءات الطرق الخارجة عن الكتاب والسنة وتمَّعزل الكثير منها عن الشعب.

كان اهتمام ابن باديس بالتصوف والطرق الصوفية لغاية إصلاحية ودينية وهي تنقية الدين من مظاهر الغلو والشرك والضلال، وفي هذا الإطار قدَّم لنا العديد من الآراء الهامة والقواعد اللازمة لإصلاح الدين والتصوف، وعرض لأهم مقامات الأدب الصوفي وفي مقدمتها مقام القرب من الله والحب والمعرفة والتوبة والزهد… كما بين حقيقة الأدب الصوفي والأسس الواجب توافرها في مقام الأدب مع الله ومع الناس، لأن التصوف القرآني عنده كله أدب ومن شروط الأدب الصوفي التي أوضحها ابن باديس:

– أن هذا الأدب هو الذي يلزم المتصوف التأدب مع الله ومع النبي (ص) ومع الناس، وعلى ذلك فإن أكثر الناس محافظة على الأدب وحرصاً عليه هم شيوخ الزهد والعلم من أئمة التصوف العارفين.

– أن هذا الأدب يستلزم إبطال زعم كثير من الألقاب التي لقب بها بعض المتصوفة مثل قطب الزمان الفرد الذي يعتقد أن الكل دونه والعارف بالمسالك وغيرها، فيجب ألا تطلق جزافاً على كل من يدعي التصوف أو المعرفة لأنها من صفات العارفين الواصلين وأسمى درجات العارفين الكاملين.

– أن هذا الأدب يستلزم عدم الغرور، لأن من الأدب عدم الادعاء بعلو منزلة الأولياء والصالحين الذين يأتون بما لا يصدر عن العامة الجاهلين، فالغرور والغفلة أعظم أسباب المحنة، وأن حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن، وأن غاية الأدب الصوفي الوصول إلى هذا المقام، مقام الأدب مع الله، ومع الناس، فنرى الصوفية أكثر أدباً مع شيوخهم ومربيهم ومريدهم حتى قال قائلهم: من لا أدب له لا شريعة له.

أوضح ابن باديس أن مقام الأدب مع الله يتفرع عنه عدة مقامات أهمها:

مقام القرب من الله : وهو مقام رفيع يبتغيه كل من سلك الطريق وفيه السكينة والاطمئنان، وفيه يكون السالك في حالة نفسية خالية من كل قلق، وغاية هذا المقام الحصول على مرضاة الله. فشعور العبد برضى الله هو الغاية التي يسعى إليها الساعون ويعمل لها العاملون هو رضي الله.

فالعمل الصالح ترتضيه العقول وتستعذبه الفطر، ولكنه لا يفيد صاحبه إذا لم يبلغ به مرضاة الله.

ويرى ابن باديس أن مقام القرب أدب دائم ؛ لأن الأدب سيكون في الوقت والحال والمقام، ومن لازم  الأدب بلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب.

مقام التوبة: ويسميه ابن باديس أحياناً بمقام الإخلاص والعبادة على اعتبار أن العبادة عمادها التوبة والعمل والعلم الجامع الصحيح بقواعد الإسلام وأصوله وهو سبيل الإنسان إلى المغفرة والطهارة.

ويصف ابن باديس، طريق ذلك المقام بقوله: إن كثرة الرجوع إلى الله يقابلها كثرة المغفرة منه، يفتأ العبد راجعاً راجياً المغفرة ولا تصده كثرة ما يذنب عن تجديد الرجوع، فقد كان عباده يذنبون ويتوبون ويغفر لهم ولا يزالون كذلك ولا يزال تبارك وتعالى لهم غفوراً.

فالتوبة هي السبيل السالك الطريق نحو المعرفة والكمال وهو الطريق الوحيد لبناء الإنسان وخلاصه، ومن ثم فلا تصوف إلا عن علم وفهم للشريعة وأصولها والعمل الناتج عن الإيمان القوي بالله ورسله وكتبه واليوم الاخر بالتوحيد التام لله الواحد الأحد.

مقام المعرفة: والطريق إلى هذا المقام يبدأ بكثرة التفكر والتأمل في آيات الله الكونية وفي آياته القرانية، وبالمزيد من المعرفة والقرب ؛ يقوى الإيمان ويتقدم الإنسان في مراحل أعلى من المعرفة ودرجات الوصول.

ويرى ابن باديس أن أعلى مراتب معرفة الله تعالى في الدنيا هي معرفة كل شيء به ومعرفته في كل شيء وبكل شيء، وأما أعلى مراتب معرفته في الاخرة فهو مقام الرؤية بتجليته الأعلى في جنات عدن، ولما كان إدراك كنه الذوات المخلوقة له تعالى فوق استطاعة خلقه ؛ فإن الاشتغال بذكر الجزاء عن العمل الموصل إليه ؛ جهل لا علم ولا معرفة، فلا بد إذن من العمل مع المعرفة، والإقلاع عن العادات والبدع، والإقبال على التهليل والتحميد والتسبيح، فيحرر العارف روحه من سلطان المادة ويسمو إلى عالم علوي، عالم الطهر والكمال، ثم يقبل على تلاوة القرآن بتدبر فينير قلبه وروحه ويحرر عقله من ربقة الجهل وقيود الأوهام والخرافات.

مقام الحب : يرى ابن باديس أن خير مثال على هذا المقام هو الحب النبوي، حيث يبدأ المحب للنبي بالتأدب معه في الأقوال والأفعال، حتى يكون موقف المحب من الأنبياء كموقف العبيد من السادة، فيجب علينا معهم ـ أي الأنبياء ـ اعتقاد الحرمة وإكبار الجانب ولزوم الأدب في الأقوال والأفعال وجميع الأحوال. وأن مقام الأدب في الحب النبوي معروف عند السادة العارفين وهم أرسخ الناس قدماً في محبة النبي (ص) ويظهر ذلك في صلواتهم وأدعيتهم ومناجاتهم وشوقهم.

ويؤكد ابن باديس على عمومية هذا المقام وعلو شأنه، لأن هذا الأدب ضروري لكل مسلم ولكل إنسان، إذ أن من لا يراعي الأدب في خطاب سيد المرسلين كيف يصلح أن يكون من العارفين السالكين، ومن لا يؤدب نفسه كيف لا يؤدب غيره.

ويؤكد ابن باديس كذلك على أهمية ذلك المقام، ويرى أن هذا المقام كله خير وقد سار فيه جميع الصحابة، وأن الحب النبوي يجب أن يكون بعيداً عن المصالح الدنيوية ليكون موافقاً لحب الصحابة والتابعين والصالحين ولهذا كان قول ابن باديس لهم: “اعلموا أن خير هذه الأمة هم أحبها في نبيها، وهم أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية على لسان المعصوم، وعلى قدر حبهم فيه كان تعظيمهم له وأدبهم معه”.

مقام الزهد : وهو مقام رفيع وصل إليه زهاد الصدر الأول في الإسلام، ويقصد ابن باديس كبار الصحابة وأوائل الزهاد أمثال الحسن البصري ت 110هـ، وإبراهيم بن أدهم ت 159، ورابعة العدوية ت 185هـ، وغيرهم.

وهؤلاء تميز تصوفهم بالزهد في الدنيا والاتجاه نحو الآخرة مع التمسك بالطاعات والقربات، وكان الزهد والورع والإخلاص عندهم وسيلة لا غاية، وسيلة إلى القرب من الله والوصول إلى المعرفة. أما أدعياء الزهد هجروا الدنيا والعمل، وابتعدوا عن الحياة والناس وأصبح الزهد عندهم غاية، وهؤلاء عارضهم ابن باديس وبيَّن لهم حقيقة الزهد فقال: صحيح أن حقيقة الدنيا وراء قشورها الظاهرة، ولكن ليس معنى ذلك من الزهد أو التصوف، وأزهد من الصوفي الذي لا يملك الدنيا ذلك الصوفي الذي لا تملكه الدنيا ولا يداخله الوجل ممن يملكونها.

وتم بالفعل تصحيح العديد من المفاهيم الخاطئة التي كان أصحاب الطرق يظنونها عبادة، وهي في الحقيقة مظاهر للشرك بالله، وتراجع عدد غير قليل منهم وانضموا إلى صفوف ابن باديس وجمعية العلماء لينشروا الدين الصحيح.

أثبت ابن باديس بالقول والعمل أن القرآن كتاب عقيدة ومنهاج حياة، وأنه مصدر وأساس كل فكر وفلسفة تتخذ منه ومن أحاديث الرسول (ص) قاعدة وهادياً ، ونتيجة لذلك أصبحت الدعوة إلى التنزيه والتوحيد محوراً لكل تفسير وأساساً لكل دعوة إصلاحية، ومن أجل هذه وصف ابن باديس بأن المخلص والنور والمصلح لأمته ؛ الذي يهديهم ويقودهم إلى المستقبل الأفضل، لأنه العارف بسبيل السعادة والنجاة والسائر على هدى السلف والسيرة النبوية، وكان الأثر المباشر لدعوته الصادقة ظهور مدرسة في الإصلاح الفكري والأخلاقي والاجتماعي في الجزائر والعالم العربي من تلاميذه والسائرين على نهجه في الدعوة والإصلاح.

أثبت أن التوحيد أساس الدين وأساس جميع الأعمال، وأن كل شرك في الاعتقاد أو الفعل فهو باطل، ولذا واجب ترك جميع البدع والمنكرات الدخيلة على الإسلام، وأن البدعة هي كل ما لم يثبت عن النبي قوله أو فعله، ونتيجة لذلك ظهرت بوادر النهضة العلمية، واختفت العديد من الزوايا والطرق الخارجة عن روح الإسلام وانتشار الوعي بضرورة الاعتقاد بأن العلم والعمل معاً أصل الإيمان، وأن ليس للإنسان إلا سعيه وعمله فلا يجزى بعمل غيره، وقد يدخل في عموم عمله ما يكون سبباً له كالذي يعمله ولده أو تلميذه بتأثير تربيته وتعليمه وما سنه من سنة حسنة أو سيئة فله مثل جزاء من يعمل بها من بعده.