هل يمكن أن يقف عمر بن الخطاب مكتوف اليدين أمام غلاء أسعار اللحم في عهده، فلا يجد حلا إلا أن يطلب من الناس مقاطعة اللحم والجزارين؟

عمر الذي لم تستعص عليه معضلات الدول تُعجزه هذه المشكلة؟

هكذا يروون عن عمر، والذي أعلمه من الإسلام يُحيل أن يكون عمر بن الخطاب وَكَل الأمر إلى الناس، واكتفى بعرض هذا الحل السًحري الخطير!

ليس عن عمر

عدت أفتش في سياسة عمر بن الخطاب عن سند هذه الحكاية، ورأسي مسكونة بما يدفع صحتها. فوجدت أن الأثر المتداول في منتديات الوعظ، ومنابر التسكين، مفاده أن الصحابة شكوا إلى عمر بن الخطاب غلاء اللحم، وطلبوا منه التسعير درءا لهذا الغلاء، فطلب منهم عمر أن يُرخصوه بالعزوف عن شرائه. وبالرجوع إلى الدواوين التي جمعت آثار الصحابة والتابعين، تبين أنه ليس لهذا الأثر وجود بها، وحاشاه!

إبراهيم بن أدهم

إلا أننا وجدنا  بعض كتب التاريخ، وبعض الكتب التي اهتمت بذكر تراجم وحكايات الأولياء تذكر مثل هذه الحكاية عن إبراهيم بن أدهم!

فمن الأول ما جاء في تاريخ دمشق لابن عساكر (وقيل لإبراهيم بن أدهم: إن اللحم قد غلا ؟ فقال أرخصوه، أي لا تشتروه) (6/ 282).

ومن الثاني ما جاء في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 32) : ” قيل لإبراهيم بن أدهم: ” إن اللحم غلا قال: فأرخصوه أي: لا تشتروه “.

والفرق كبير بين أن يُروى مثل ذلك عن عمر بن الخطاب، سواء قبل توليه الإمارة، أو بعدها، وبين أن يُروى عن إبراهيم بن أدهم.

فعمر بن الخطاب وإن اختط لنفسه حياة الزهد، فهو لا يقضي به بين الناس، لا في فتوى ولا قضاء، ولا رؤية ولا توجيه. إنه يستمد فقهه وفكره من الشريعة التي  تعلمها من النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تعلم منها أنها جاءت لتحقيق مصالح الناس في الدنيا، قبل إصلاح معادهم في الآخرة.

أما إبراهيم بن أدهم فهو معدود في كبار الزهّاد، ومما روي عنه في زهده قوله : ” أخاف أن لا أؤجر في تركي أطايب الطعام، لأني لا أشتهيه.” وقيل له: لو تزوجت؟ قال: لو أمكنني أن أطلق نفسي، لفعلت !. سير أعلام النبلاء، ط الرسالة (7/ 392).

فتركه اللحوم ونحوها بالنسبة له منهج حياة، فلِمَ لا ينصح به الناس، ولو لم يكن كذلك لما استبعد ذلك منه؛ لأنه لم يكن يوما من رجال السلطة، فهو رجل من عامة الرعية، وإن كان من كبار الزهاد السائرين إلى الله تعالى!

بين صلاح السلطة وصلاح الرعية

وفرق كبير بين صلاح رجل السلطة، وبين صلاح الرجل في خاصة نفسه؛ ولقد دخل عمر بن حوشب الوالي يوما على سفيان الثوري، فسلم عليه، فأعرض عنه سفيان انقباضا منه لتوليه الولاية ! فقال عمر : يا سفيان! نحن -والله- أنفع للناس منك، نحن أصحاب الديات، وأصحاب الحِمَالات، وأصحاب حوائج الناس، والإصلاح بينهم، وأنت رجل نفسك. فأقبل عليه سفيان، فجعل يحادثه، وانبسط له. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 246)

وعمر بن الخطاب لم يكن يقبع في بيته حتى تغلو الأسعار، فضلا عن أن يأمر الناس بالصبر أو العزوف؛ فإنه كان يُراقب الأسواق ليدرأ أي اختلال مفتعل عساه يحدث في الأسوق؛ ومن ذلك أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا .الموطأ (2/ 651)

وفي بعض الآثار المفسرة : أنه رأى ابن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدين. فقال: تبتاعون بأبوابنا، وأفنيتنا، وأسواقنا، تقطعون رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعًا، وإلا فلا تبع في سوقنا، وإلا فسيروا في الأرض، واجلبوا، ثم بيعوا كيف شئتم. المصنف (14906).

فلم يتوجه إلى الرعية طالبا منهم العزوف عن الشراء ؛ لأنه يدرك أن على الحاكم دورا أهم من ذلك وأكبر؛ ولذا طلب من حاطب أن يخرج من السوق أو يبيع كما يبيع غيره؛ لأنه بفعله ذلك يضر بالسوق.