إشكالية كبرى تلك التي يثيرها سؤال الدين في علاقته بالقومية لدى التيارات الفكرية -ذات الطابع القومي- التي اجتاحت العالم العربي في القرن العشرين، حيث اتخذت من العلمانية الغربية مرجعيات لها، كلٍ حسب توجهاته الفكرية، التي يعلن شعاراتها، مراهنًا على حتمية الحل العلماني الذي يرى فيه خلاصًا للشعوب العربية من الفقر والجهل والتخلف والاستعمار، وحالة التشرذم وافتقاد البوصلة.

فالدين سؤال محوري فكري، كان لابد من طرحه، لأنه يمثّل مرجعية أساسية لدى الشعوب العربية، بوصفه الإطار الفكري والأخلاقي والقيمي والتشريعي بالنسبة إليها، خاصة أن موجة العلمانية جاءت معها بأفكار، على شاكلة التحديث والعقلنة والدمقرطة، وسعت ضمنا لإبعاد المؤسسات الدينية الإسلامية مثل الأزهر ودور الإفتاء عن دائرة صنع القرار السياسي والاجتماعي والثقافي، وحصر دور هذه المؤسسات في الشعائر التعبدية وما يتصل بها من قضايا الإرث والأحوال الشخصية.

فالإشكالية التي يراها العلمانيون العرب في الإسلام أنه يشكّل حائطَ صدٍ؛ لما يتميز به من طبيعة جوهرية صلبة، فالإسلام لا يقيم حدا فاصلا بين ما هو ديني وما هو سياسي، ولا بين الروحي والزمني، على غرار المسيحية، التي قامت على التمييز بين الحقل الديني الكنسي والحقل الدنيوي السياسي، كما أن الفرد المسلم –في منظورهم- تضمر ذاتُه لتذوب في المجتمع، وتنسحق ذاتيته الحرة تحت وطأة الألوهية القاهرة، مع غياب العقلنة بسبب طغيان المزاجية والعاطفية على الشخصية العربية والإسلامية ([1]). 

وهي اتهامات تعبر عن فهم غربي استشراقي ونمطي عن الإسلام والمسلمين، فمنظور الإسلام للإنسان أنه خليفة لله على الأرض، بما يقتضي ذلك من واجبات أخلاقية وقيمية، نحو ذاته، ونحو المجتمع والأمة، وبالفعل السياسة جزء لا يتجزأ من الإسلام، بمقتضى التشريعات توجب قيام دولة تقوم على تطبيقها، وتذود عن الدين([2]).

ولذا، كان على المفكرين عامة، والقوميين خاصة؛ مناقشة حضور الدين في أدبياتهم المختلفة؛ أملا في الإجابة عن سؤال العامة والنخبة لهم: كيف سيتموقع الدين في الحياة والأمة والعروبة؟ وهو ما نسعى إلى رصد إجابته، من واقع كتابات أبرز زعماء الفكر القومي الحديث، مع تبيان كيفية تمثيل الدين في رؤاهم.

فنظرة ساطع الحصري (1879-1968) إلى الدين، نابعة من فكره القومي بفلسفته العلمانية، فلم يكن الدين بمعناه الروحاني السماوي هو الحاضر في بؤرة مفاهيمه، وإنما كان ينظر إلى الدين ضمن منظور شامل، فيضعه في بوتقة واحدة، مع غيره من المنظومات الفكرية، حيث يقول: إن الفكر البشري ينزع دوما إلى معرفة الحقائق، ويبذل جهودا كبيرا لرفع الأستار التي تخفيها عن الأبصار، وكشف الأسرار التي تكتنفها من جميع الجهات، فلا نغالي إذا قلنا إن تاريخ العلم، وتاريخ الفلسفة، وتاريخ الأديان؛ إنما هي بمثابة قصص للجهود المتواصلة، التي بذلها الفكر البشري في سبيل اكتشاف الحقائق([3]).

فنظرته عمومية للأديان كلها، وتأتي ضمن سعي الإنسان للحقيقة، فيقبل الأديان -السماوي منها والوضعي- دون النظر في ماهية كل منها، ولا في جوهر الاختلافات بينها، فالدين هو وسيلة لكشف الحقيقة دون توضيح كينونتها؛ أي يستوي عالم الدين، مع الفيلسوف، ومع الباحث في المختبر، دون التفرقة بين رسالة الدين والعلم والفلسفة.

ولو شئنا الدقة، لقلنا إن الدين عنده هي عقيدته العروبية بدون غطاء ديني، فالعرب -في منظوره -كانوا أمة متميزة قبل بعثة الرسول، ولا فضل كبير للإسلام في تكوين الهوية العربية، مقررا بوضوح: أن الهلال لم يكن رمزا للإسلام عند العرب في يوم من الأيام، ولم ترتبط فكرة العروبة بالهلال في وقت من الأوقات، والدول العربية التي نشأت بعد الثورة العربية الحديثة لم ترسم الهلال في أعلامها وشعاراتها.. فالهلال محبوب النيورجعية الإسلامية([4]). فالهلال يعبّر عن رمزية إسلامية، لأنه كان شعار الدولة العثمانية بوصفها دولة الخلافة و وحدة المسلمين، وحامية الإسلام، وتسيطر على المقدسات الإسلامية، وتطبق الشريعة، ولذا فهو رافض لأية رمزية لها، بل إن الهلال علامة على الرجعية الإسلامية الجديدة. ونلاحظ -في هذا السياق- استخدامه للفظة “الرجعية” في نعت الإسلام، برهانًا على أنه يضع الإسلام ضمن دائرة التخلف أو هو سببٌ للتخلف، بينما التقدمية تعني القومية، وما يمكن أن تتخذه من مذهبيات اشتراكية.

فلا غرابة أن يضع الدين في مرتبة متدنية بوصفه رابطة اجتماعية وسياسية،  حيث يقول: برهنت الأحداث على أن وحدة الدين والمذهب شيء، والوحدة القومية شيء آخر. والواقع أن التعاليم المسيحية الأصيلة تتضمن فصل الدين عن الدولة([5]).ثم يقدم سردية طويلة عن قصة صراع العلمانيين مع الكنيسة في أوروبا، حتى تحرروا من سلطتها، واضعا الغرب نموذجا لابد من الاقتداء به، وصولا إلى الدولة القومية العربية([6])، مؤكدا على أن الدين لا يمكن اعتباره عاملا للوحدة أو للفرقة، فلابد من عدم النظر إليه ولا الاعتبار به، حيث يقول: إن وحدة الدين والمذهب، لم تحُلْ دون انفصال المجر عن النمسا، والنرويج عن السويد، كما أن اختلاف الدين لم يمنع من اتحاد المسلمين مع المسيحيين في ألبانيا([7]).

ويصنّف نديم البيطار (1924-2014) الدين بوصفه عاملا مساعدا على تكوين الدولة، أو توحيد القبائل والشعوب، فالغاية عنده هي الوحدة، التي ترتكز على روابط: الدين أو اللغة أو العرق، حيث يتبنى منظور المؤرخ الشهير كارلتون ماير حول نشوء الدول القومية، ذاكرا أن هذا قد يتم على يد قائد عسكري يخضع القبائل له، أو عبر نمو دين قبيلة وانتشاره أو دين قومية معينة وتمدده إلى قبائل أخرى، وقوميات أخرى، ويعني شيوع هذا الدين مشاركة واسعة في عقائد، عبادات، طقوس، تقاليد، عادات، قوانين، أنظمة، وثقافة واحدة. وقد يكون عامل اللغة المكتوبة أو العوامل الاقتصادية سببا في تكوين الدولة([8]).

وظلت نظرة البيطار للدين ضمن منظور الحكم الثيوقراطي في مفهومه الغربي، فالنظام الملكي الأوروبي كان يحكم باسم الدين، وبسلطة مطلقة، وبلا رقابة، بينما الدولة القومية الحديثة أساسها القانون واستقلالية السلطات، وعلمنة النظم، ورقابة برلمانية من مجلس منتخب. كما يرى البيطار أن الأديان أداة إيديولوجية استخدمتها السلطة تاريخيا، لتبرير سيطرتها على الشعوب، وأن القادة والفاتحين والملوك كانوا يقدمون أنفسهم كآلهة أو نصف إله، لأن الشرعية الإلهية فقط، لها القدرة على تبرير عظمتهم وتفوقهم في هذه المراحل التاريخية، وتكبيل الشعوب بسلاسل اتكالية روحية غيبية، وقد برهنت أسماء الآلهة نفسها على المفاهيم المجسدة للسلطة، وأنها ظلت كذلك حتى ظهور العقل الحضاري الحديث، الذي نأى عن الدين، وجعل السلطة بيد الإنسان العاقل المتحضر([9]).

وبالطبع هو يضع الأديان كلها في خندق واحد، بل إنه يطبق عليها منظور العقل اليوناني، الذي كان يُدخل الإنسان في صراع مع الآلهة الوثنية، وأن الآلهة ترعى الإنسان، وقد تتجسد لتكون بشرا متجسدا، أو أن يصبح القائد نصف إله.

إن الدين ليس مجرد اعتقاد، إنه للعرب عقيدة وشريعة وهوية ومصدر للقيم والأخلاق والفضائل، وقد شرف الله العربية فأنزل القرآن بلسانها، وجعل الجنس العربي أساس دعوته، وكان للعرب كل الفضل في تأسيس دولته. فإن أردنا نزع الدين عن العروبة لم يتبق لنا إلا سمات الجاهلية، وإن نزعنا العروبة عن الإسلام، فلا وجه للحضارة الإسلامية، لأن العربية كانت لسانها الأساسي في كل علومها.


[1] تفكيك العلمانية في الدين والديمقراطية، د. رفيق عبد السلام، دار المجتهد للنشر، تونس، ط1، 2011، ص101، 102.

[2] تهافت العلمانية، د. عماد الدين خليل، دار ابن كثير، دمشق –بيروت، ط1، 2008، ص51- 52.

[3] صفحات من الماضي القريب، ساطع الحصري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984، ص49.

[4] العروبة بين دعاتها ومعارضيها، ساطع الحصري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984، ص101.

[5] ما هي القومية؟ أبحاث ودراسات على ضوء الأحداث والنظريات، ساطع الحصري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984، ص162.

[6] المرجع السابق، ص163-165. 

[7] المرجع السابق، ص161.

[8] من التجزئة إلى الوحدة، نديم البيطار، منشورات التيار القومي العربي، د. ت، ص12، 13.

[9] المرجع السابق، ص22، 23.