لقد تضاءل الفهم بالمقصد الأخلاقي للعبارات القرآنية، المفيدة بأن الشيطان مذموم مدحور، وأنه سرعان ما يخنس ويتراجع، وأنه يتحالف مع نظرائه من بني الإنسان، وأن الاستعاذة مما يسوّله أمر ممكن.
تضاءل هذا المقصد ليتضخّم على حسابه خنوع مفزع يستهين بالذات الآدمية، وإرادتها وحاجتها إلى روحية إيجابية، تدعم مسيرتها الاستخلافية.
أكثر من هذا، لقد أسهم في هذا النكوص عددٌ من أصحاب المعاجم اللغوية الذين اعتبروا لفظة الشيطان مشتقة من الجذر “ش ط ن “، وأن الشطن هو “الحبل الطويل الشديد الفتل”. لم يعتنوا بأن الكلمة دخيلة على العربية، فلا حاجة إلى هذا التعسّف في إرجاعها إلى ثلاثي يتضمن دلالة القوة والشدة.
الشيطان مجرد عقبة
بذلك لم ينتشر القول بالطابع السلبي للشيطان المقلّلِ من أهميته، القاصرِ أمره على كونه أحد الحوافز لحياة روحية وأخلاقية تواجه نزعات الضعف والتخاذل. لم يبرز في فكرنا الأخلاقي- التربوي عامل التصادم البنائي مع الشيطان على اعتبار أنه عقبة يجب على الإنسان تجاوزها، وأنه الافتراض الضروري الحافز الإرادة للتغلب عليه.
مع ذلك فقد حرص- قديمًا- عددٌ من العارفين والمفكرين والأدباء المجددين على الخروج من خطاب التثبيط والتخويف متمثلين بوعي مقولة: “عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد”.
ذلك كان شأن جلال الدين الرومي في المثنوي؛ حين اعتبر أن الشيطان وأنانية الآدمي ليسا إلا شيئا واحدا، قبله كان رجل كابن سينا قد قلّل من أهمية الشيطان ولم ير له سلطة فعلية.
لم تختلف معالجة أبي عثمان الجاحظ في كتابه الحيوان -المسألةَ فقد تناولها بأسلوبه المتميّز المُذكي للعقلية النقدية المتلمّسة في الواقع الاجتماعي والثقافي ما يعتمل في نسيجه من تباين ومفارقات. مثل هذه النماذج- على أهميتها وفعالية جهودها- لم تفلح مع توالي نكسات الحواضر الإسلامية في الصمود في وجه الذهنية الاتباعية المتوجِّسة من الانخراط في المسيرة الاستخلافية للآدمي.
نقرأ مثلا ما كتبه الحافظ ابن الجوزي البغدادي (القرن السادس الهجري) في “تلبيس إبليس” فنجد عجبًا. من الاستعراض الحاشد للأحاديث والآثار والروايات المتعلقة بالشيطان نقف على انقلاب مفهومي خطير في هذه القضية.
مرجع هذه الخطورة يعود إلى طريقة التعامل مع مسألة ليست من أصول الاعتقاد؛ لكنها تحوّلت مع ذلك إلى عنصر تأثير بالغ في المجالات الحيوية من الشخصية الإسلامية. تحقق هذا الانزلاق المفهومي نتيجة ذهنية وتصورات فرضت علاقة سلبية بالنصوص القرآنية والنبوية الصحيحة المتصلة بهذه القضية.
يقول ابن الجوزي في مقدّمة التلبيس معللا اختياره لطرق هذا الموضوع: “وضعتُ هذا الكتاب محذّرا من فتنة (الشيطان)، ومخوفًا من محنه وكاشفا عن مستوره.. ورأيت أن أحذّر من مكايده، وأدل على مصائده فإن في تعريف الشر تحذيرا عن الوقوع فيه …”.
وراء هذه النوايا الحسنة يكمن – في تقديرنا- صميم الإشكال الذي هو ليس في النصوص المعتمَدة، ولكن في الطريقة التي يستند إليها الكاتب، عندما يتعامل مع تلك النصوص وينتقيها. جوهر الموضوع يتحدد في المنهج الفكري الذي يؤسَّس عليه الفهم، ويُلتَزَم به فيما يقع استنتاجه من جملة النصوص. إذا كان مفهوم العداوة المُعلَنة بين الشيطان والآدمي أمرًا قارًّا؛ فإن الفرق شاسع بين من ينزّله ضمن معنى دفاعي متوجس، وبين من يفهم تلك العداوة في سياق بنائي يتحوّل فيه التحدّي إلى عامل إبداع وتجاوز.
حريتان مختلفتان
بتعبير آخر هناك اختلاف كامل بين من يعالج أمر الشيطان بمعزل عن كل بُعد فكري وجودي وبين من ينزّل ذات الوجود ضمن دائرة الصراع بين حرّيتين: حرية تحوّلت إلى جبرية أحادية، عندما تبنّى الشيطان الشرَّ خيارا واحدا أبديا، وحريّة الإنسان الذي يخطئ دون أن يتحوّل خطؤه إلى خيار نهائي.
ما فعله ابن الجوزي لا يعدو- في الظاهر- أن يكون من قبيل النصح لأخذ الحيطة، وهو أمر يراه البعض محمودًا؛ لأنه يحمي المؤمن في حصن حصين، لكنه تعبير عن تسطيح في الفكر الديني، لا يمكن أن يفضي إلاّ إلى تهافت نظرية التربية عند المسلم، وشحوب النموذج الذي يُراد أن تتمّ تنشئة الأجيال عليه.
يتجلّى هذا القصور بما نلحظه في الاتجاه الآخر عند أبي حامد الغزالي في كتابه “أيها الولد المحبّ”، الذي ينطلق من رؤية مغايرة لذات الآدمي، وضرورة الاهتمام بما تحمله من مكامن القوّة، ومواهب الحريّة، بذلك تكون التربية عنده أوّلا شحذًا وإبرازًا لقيمة الأفراد وطاقاتهم ضمن المجتمع.
أما التحذير والتنبيه إلى المخاطر، فلا يكون إلا بالتبعية والعرض، لذلك فأوّل ما افتتح به رسالته في التنشئة قوله: “إن النصيحة سهلة والمشكل قبولُها”، ذلك أن التحدّي الرئيس في العمل التربوي هو الوعي بجدلية الحريّة التي تمكّن المعلِّم من الوصول بالمتعلّم إلى أن يكتشف نفسَه بنفسه.
بناء الذات في ضوء هذه الجدلية لا تكون تلقينا أو تخويفا بقدر ما هي رهان على المتعلّم، يصل به إلى امتلاك زمام ذاته بنفسه؛ “لأن العلم بلا عمل جنون والعمل بلا علم لا يكون”.
في هذا المستوى الأوّل، يقترن البحث في مسألة الشيطان بتصوّر للتوحيد، وفهم لمسألة الشرّ وما يتولّد عنهما من نظرية في التربية، أي أن إشكال بناء الذات الإنسانية هو أعقد من أي نزعة حماية أوقاية؛ لأنه يتطلّب وعيا يؤسس لمعنى الوجود، وتمثّلا شاملا لوحدانية الله وعدله، ومتطلبات موقع الآدمي المتميّز بالعقل والحريّة في الاختيار التربوي.
الترهيب بتوظيف الشيطان
يؤكد الدكتور المهدي المَنْجَرَة– أحد كبار المهتمين بالدراسات المستقبلية في العالم الإسلامي- أن سرَّ الابتكارات التكنولوجية الغربية التي تحقق زيادة ضخمة في الكفاءة الإنتاجية؛ يكمن في مدى النجاح الذي تحققه كل أمة في إقامة التربية والتعليم الملائمين للتغيير المجتمعي الذي تريده.
مثل هذا التأكيد يثبت عمق العلاقة بين نظرية التربية وخلفيتها العقدية، وما تؤدي إليه من تصوّر للإنسان ضمن جدلية الخير والشر وتبعاتها على أرض الواقع وآفاق المستقبل. لكننا إذا أردنا أن نفحص مسألة الشيطان بصورة أكثر تدقيقا؛ فإننا نجد أنها تتجاوز المجال العقدي- التربوي، وما اعتراه في عالم المسلمين من ارتباك.
المسألة في جانبها الثاني تعود إلى النظرية المعتمدة في التفسير، ذلك أن ما أعان على تفكك نظريتنا التربوية وقوّى فيها عنصر الترهيب، ذلك المنهجُ السائدُ في تعاملنا مع النص القرآني.
كيف يمكن اعتبار مسألة الشيطان مثالا كاشفا، يمكن من خلاله الوقوف على جانب ثانٍ من جوانب تعثر تصوّرنا العقدي ومنظومتنا الفكرية، وأثر ذلك في قصور فاعليتنا الحضارية؟
إذا بدأنا من جانب الخطاب القرآني؛ فإننا نلاحظ أن الشيطان قد ذُكِر في سبعين آية بصيغة المفرد، بنسبة ورود متقاربة جدا، بين عدد المكية منها والمدنية.
لم يتجاوز عدد الآيات التي تستعمل صيغة الجمع (شياطين) أكثر من ثماني عشرة آية ثلاث منها فقط مدنية. أما وروده في كامل القرآن بتسمية إبليس؛ فإنه انحصر في إحدى عشرة آية، اثنتان منها لم ترتبط برفض السجود لآدم.
إلى جانب هذا الحضور المحدود كميّا؛ فإن دلالات الورود كلها تربطه بالفعل الإنساني وقَدَرِه الاستخلافي. الشيطان مخلوق منعدم التأثير على العالَم ومسيرة الكون، والشرُّ – من ناحية ثانية – لا يصدر عنه بقدر ما يصدر عن النفس الإنسانية الحرّة والمسؤولة.
بتعبير آخر يمكن القول إن إبليس في الخطاب القرآني له مكانة هامشية جدا مقارنة بالموقع المحوري للآدمي في المسيرة الكونية التي أرادها الله تعالى. هذا الفهم يعطي الخطاب القرآني طابعا مميَّزا لا يمكن أن يخفى مقارنةً ببعض الديانات الأخرى التي اعتنت بالشيطان.
ليس في القرآن الكريم أكثر من أنّ إبليس هو قائد حملة تضليل للآدمي، يستعين فيها مع أعوان من قوى الشر. من هذه الناحية فهو مختلف اختلافًا كاملا عمن ينطلق من وجود أصلين أزليين: النور والظلمة أو الروح والمادة، يكونان دائما في حالة تصارع متواصل.
يختلف منطلق إبليس وأثره في الخطاب القرآني، عن ذلك المعتقد لكونه لم يكن خصما لله تعالى، ولا هو قائد لهذا العالم، ولا هو إله لهذه الدنيا. إنه مخلوق مقرٌّ بسلطان الله، أبى أن يسجد لآدم، واستكبر عن الانصياع لأمر الله، فهو ليس “أهريمان” خالق الشرور، ولا هو يمثّل مركز صراع دائم مع “أهور مزدا” إله الخير.
أصالة الخطاب القرآني إذن في مسألة الشيطان تتحدد أوّلا في ضوء عقيدة التوحيد التي تنطلق من الأصل الواحد للوجود، وأنه تعالى في مفارقته للعالَم يظلّ حَفيًّا به فاعلا فيه. بذلك تحققت إرادة استخلاف الآدمي التي تقتضي حريّته سُـنَّةً لخلقه ضمن صيرورة الزمن.
في هذه الدائرة التي تكرّس اختيار الإنسان وقدرته على الاهتداء بين سبل الخير والشر؛ يتأكد أن طرد الشيطان عن مقام القُرب، لم يكن اعتباطا أو عفوا؛ بل جاء نتيجة اختياره للشر مسلكا ثابتا لا يتحوّل عنه.
بينما تكون دائرة استخلاف الآدمي لا تعني خيارا نهائيا لا رجعة فيه، بل انفتاحا على احتمالات مختلفة، وهذا ما يؤكده الخطاب القرآني المتعلّق بالشيطان، من إثبات لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر، وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم في الأرض، ومبدأ تحقق خيار الآدمي المستخلَف.
ما يعنينا في هذا المستوى، أن عدم الاتفاق على نظرية في التعامل مع الخطاب القرآني، وعلى أصالة هذا الخطاب؛ أفضت ببعض المفسرين إلى أسئلة مثيرة، نأت بالفكر الإسلامي عن المعاني والدلالات التي أسبغها القرآن على الإنسان والشيطان.
الحتمية الخادعة
وفي ظل ما يُعرف اليوم بصراع الحضارات، وما ارتبط بهذه المقولة من تنظير وما نتج عنها من اختيارات، تتجاوز الشيطنةُ المجالَ الفكري والحقلَ الرمزي الديني، لتصبّ في صميم بُؤَر التوتّر والصدام في المستويين العالمي والإقليمي. ذلك ما يتيح للخطاب القرآني في أصالته التي عالج بها مسألة الشيطان معاصرة ونجوعا لافتين للانتباه.
ماذا نجد إذا عدنا إلى المشاهد التي يتحدث فيها إبليس في النسق القرآني ؟.. لقد سوّى الله تعالى آدم من طين من حمإ مسنون متغيّر، وحين صار الطين صلصالا – يصلّ إذ ضُرِب كالفخار – نفخ فيه من روحه فإذا هو إنسان حيّ.
عندها ظهر إبليس الذي كان من الجن ففسق عن أمر ربه، وأبى أن يسجد استكبارا على أساس أنه خير من آدم: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}. الحجة الإبليسية أنه لا يمكن لمن خُلق من عنصر النار الذي هو أشرف من الطين، أن يُؤمَر بالسجود إلى من هو دونه.
نحن- دون شك- أمام نظرة (جوهرانية) ( Essentialisme) للكائنات والحضارات، هي نظرة تؤبّد الاختلافات والفروق وتجعل منها حواجز عازلة لا يمكن تخطّيها بأي حال، بإزاء هذه (الجوهرانية).
وفي الجانب الآخر من اللوحة القرآنية، يظهر الآدمي بأبرز خصوصياته الذاتيّة: قدرةٌ على النموّ من حالة بدائية إلى مرحلة أكثر تطوّرا، واستعدادٌ للوعي بأنه صاحب إرادة.
الآدمي وإبليس في اللوحة التأسيسية هما المشروع واللامشروع، الصورةُ بأفقها المفتوح وقرينتُها المعكوسة التي نزلت إلى درك الخيار النهائي. ما اعتنى به إبليس مما اعتبره ضعَةً في الآدمي، ألهاه عمّا ينطوي عليه هذا الكائن من قدرات تتيح له أخطاء وصعودا عبر الحرية التي أعطاه إياها الخالق، والتي لم تؤد به إلى خيار نهائي، بل أتاحت له مجالا مفتوحا يمكن أن ينتهي بإعانة الله إلى المسلك الأفضل.
الآدمي ـ على هذا ـ هو الإمكان بينما الشيطان هو الحتمية. في الإمكان انفتاح وحريّة، والحريّة صبغة إلهية أما الحتمية فطبع شيطاني؛ مَن رام الحريّة كان متمثّلا لنفخة الروح فيه، ومن انصاع إلى الجبر عاذ بما هو شيطاني.
في الأول- الإمكان- ارتقاءٌ عن طريق وعي الذات المتناهية الحرّة، أما الثاني- الحتمية- فهو المثال عن الحرية البدئية التي هبطت إلى جبرية لا ترى في الآدمي إلا خصوصيات ثابتة ونهائية.
ما يقال اليوم تشهيرا بالثقافة الإسلامية وقيمها ورموزها وبـ “عدوانية” الشعوب الإسلامية واستعدادها “الفطري” للعنف والفوضى، كل هذا عَوْدٌ لإنتاج الحتمية الإبليسية التي لم تر في الآدمي إلاّ مخلوقا بدائيا، وكائنا معطوبا لا يمكن تغيّره.
السؤال المهم هو: كيف يمكن أن نتجاوز بؤس (الجوهرانية) الإبليسية، والانخراط بإيجابية في صيرورة التاريخ، وفق الشروط المعرفة البشرية، وضمن ثقة لا تفتر في العناية العُلْوية؟.. ذلك هو التحدي الأكبر الذي يواجه المسلمَ المدركَ للخط الفاصل بين شيطانيته وآدميته.