الإيديولوجيا من أكثر المصطلحات والمفاهيم استعمالا في المجالات الفكرية والثقافية، ومع ذلك فإنها من أكثرها غموضا واضطرابا وتنوعا، فهي تكمن داخل كل فكرة، ومن دونها لن يتسنى لفكر أن يشق سبيله إلى الفعالية ليصبح كيانا معنويا مكتمل الحضور، ومع الحداثة الغربية تغلغلت في الميادين كلها آخذة بناصية كل فكرة طموحة لتحيلها إلى أمر واقع أو حدث فاعل في التاريخ، لذا رآها البعض خارطة فكرية للكون، ورآها آخرون المعادل الوظيفي للأسطورة، ورآها المنظر الاستراتيجي “بريجنسكي” بأنها تلعب دور الأسمنت في المجال الاجتماعي، لأن المجتمع الذي لا يؤمن بأي شيء في حالة تحلل.
وفي محاولة للاقتراب من مفهوم الإيديولوجيا ماهية ووظيفة واستعمالا يأتي كتاب “الإيديولوجيا: دراسة في المفهوم وحقول الاستعمال” تأليف محمد رضا خاكي قراملكي، والصادر عن المركز الإسلامي للدراسات في بيروت، عام 2020 في طبعته الأولى، في 266 صفحة، ضمن سلسلة مفاهيم معاصرة.
الماهية والوظيفة
الإيديولوجيا مفهوم لا يُعرف له تاريخ ولادة[1]، ولكن يمكن تحديد بداية لاستعماله، وجاءت أول صياغة للمفهوم مع الفرنسي ” ديستوت دو تراسي” Destutt De Tracy عام 1797م حيث كان يأمل في إيجاد علم للعقائد على غرار العلوم الطبيعية في قوانينه ومناهجه مقتفيا الرؤية الوضعية للفيلسوف التجريبي المعاصر “إيتيان كوندياك”، ومن ثم يمكن القول بأن المفهوم انبثق بوصفه وجهة نظر دنيوية وليس دينية، وكانت المفاجأة أن أول تعامل سلبي مع المفهوم المستحدث جاء من القائد بونابرت إذ تعامل مع المفهوم باستخفاف وسخرية، معتبرا الإيديولوجيا معتقدات زائفة.
تعني الإيديولوجيا باليونانية القديمة منطق الأفكار أو علم الأفكار، لكن التعريف الأوسع انتشارا هو أنها “النسق الكلي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة، والتي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي وتوجيهه، وإضفاء المشروعية على النظام القائم والدفاع عنه”، واستخدم عددا من مفكري العالم الاسلامي مصطلح الإيديولوجيا كنظير لعلم العقيدة.
وقد وصف الفيلسوف الفرنسي “مان دوبيران” الإيديولوجيا بأنه كلمة تحلق فوق جميع العلوم، لأن العلوم ليست إلا الأفكار والعلاقة بينها، أما “كارل ماركس” فأضفى مدلولا سلبيا على الإيديولوجيا، في كتابه ” الإيديولوجيا الألمانية” واصفا إياها بـ”الوعي الكاذب”، ورأى عدد من المفكرين أن العلاقة بين الإيديولوجيا والفلسفة متقاربة، فالفسلفة هي: التفكير بكليات ومجهولات لا يصل إليها العلم، لأنها خارج نطاقه واهتمامه، مثل التفكير في مصير الإنسان، ومعنى الوجود وغايته، وإذا كان العلم يبحث لاكتشاف المجهول فإن البعض نظر للفلسفة بأنها علم ما وراء العلم، أما الإيديولوجيا فهي تعني التصور والفهم الذي نحمله عن العالم والحياة والإنسان، وطرق الحل ونماذجه، فهي تتميز بأنها رؤية كونية، وتقويم نقدي للواقع والقضايا، وذات قدرة على تقديم الأنموذج المثالي، فهي مفهوم يقع بين النظر والعمل أو النظرية والتطبيق.
الإيديولوجيا بذرة موضوعة في الرأس، وحضورها في حياة الإنسان كمثل حضور الجاذبية في عالم الفيزياء، فكلاهما لا يُرى ولكن يسيطر ويقود ويؤثر، فهي من الحتميات في عالم الإجماع الإنساني، وهي لا تنمو إلا في أرض الصراع والاحتدام، لذا تحتاج دوما إلى الضد والعدو والنقيض.
مشكلة بعض علماء الاجتماع أنهم تعاملوا مع مفهوم الإيديولوجيا كما لو كان خارج إطار ذواتهم الحضارية وهوياتهم الوطنية، رغم أن الإنسان مفطور على التفرد والانحياز والولاء، فالفطرة سابقة على الفكرة تحكمها وقلما تتحكم بها، والإيديولوجيا تجري بصمت داخل الإنسان وفي واقعه، فهي فسلفة عمل ونقطة جاذبية للأفكار.
والحقيقة أن كل صفها تكتسبها الإيديولوجيا تتأتى من فعلها من خلال التفاعل بين الفكرة والحدث، فهي متعالية لكنها شديدة المرونة، تتسم بالبساطة والتركيب، والتناقض والتكامل، ولن تستطيع أن تحكم عليها من خلال الأوراق ولكن من خلال صورتها المتجلية في الحدث.
تواكب ظهور الإيديولوجيا مع الحداثة، لذا امتزجت الإيديولوجيا بالنزعة الدنيوية في الفكر الغربي، فرآها البعض “دينا دنيويا”، وفي الفكر الغربي تعد الإيديولوجيا البنية الأساسية للتخطيط الاجتماعي الشامل المرتكز على النزعة الدنيوية، فالإيديولوجيا ليست من خصائص المجتمعات المتخلفة، ويرى بعض الباحثين الغربيين أن وظائف الإيديولوجيا تتشابه مع الوظائف الدينية في بعض المجتمعات.
حياة دائمة
مقولة “نهاية الإيديولوجيا” أثارت صخبا واسعا، وتوسع البعض في استعمالها تحت نشوة الانكسار الشيوعي، والانتصار الليبرالي الرأسمالي، حيث عملت الليبرالية على إقصاء الإيديولوجيا والتاريخ معا، فكرهت الإيديولوجيا لأنها تذكرها بخصمها الشيوعي العنيد الذي ناصبها العداء سبعين عاما.
وقد طرح “دانييل بيل” Daniel Bell في كتابه “نهاية الإيديولوجيا” The End of Ideology عام 1960 هذه المقولة، ثم أعاد طرحها مرة أخرى عام 1988م ، وكذلك “ريمون آرون” Raymond Aron في كتابه “أفيون المثقفين” The Opium of the Intellectuals و”سيمور مارتن” Seymour Martin في كتابه “الإنسان السياسي” Political Man ، لكن “إدوارد شيلز” Edward Shils كان أول من طرح مفهوم نهاية الإيديولوجيا ضمن محاضرة ألقاها عام 1955م.
والحقيقة أن “نهاية الإيديولوجيا” هو نوع من الإيديولوجيا تسعى لفرض نفسها في الأوساط الفكرية، فهي نظرية منبثقة من نظام فكري يسعى لتأسيس مجتمع وفق رؤاه، لذا أسفرت تلك النظرية عن ولادة فكر إيديولوجي جديد يتناغم مع تغلب الليبرالية والرأسمالية.
قدر الإيديولوجيا أنها ارتبطت بإيديولوجيات قومية في أوروبا الحديثة لحظة صعودها ثم لازمتها لحظة انهيارها في نهاية القرن العشرين، لذا كان مفهوما أن تفتح الليبرالية نافذ فلسفية تسد فراغ انهيار نظام القيم العالمي بالتأسيس لموت الماركسية ومقولات بقاءها الأبدي، فإخفاق الأيديولوجيات القومية والاشتراكية كانت انتصارا للواقعية في الفلسفة، وللفضيلة في ميدان الأخلاق، ولمبدأ الملكية الخاصة في مجال الاقتصاد، وللديمقراطية.
والحقيقة أن اختفاء الإيديولوجيا أو تواريها في مكان أو زمان ما لا يعني موتها، ولكن يعني غياب شرط الحضور الزماني والمكاني وانتفاء الشرط السياسي، فالإيديولوجيا لم تمت لتولد من جديد، ولكنها في احتجاب وظهور دائمين، فهي عند الغالب والمغلوب، وهي واحدة في عالم الأضداد، فالضد ونظيره يلتقيان على المفهوم ويختصمان في استخدامه، فهي تتميز بسيرانها الدائم فلا انتهاء لزمانها، فهي تتاخم كل حدث ذي صلة بالنشاط العام، ومن ثم فعصر “ما بعد الإيديولوجيا” هو بداية لعصر أيديولوجي جديد، لأنها تصور وإرادة، فهي الفكرة وحقل اختبارها في اللحظة عينها، فهي الفكرة والحدث معا، وهي تتميز بالحراك الدائم في دورات نمو وتحول واختفاء وظهور متعاقبة.
[1] مفهوم الإيديولوجيا قديم قدم الفسلفة، فأفلاطون تكلم عن “التيموس” الذي يعني “الحماس الروحي” وهو قريب من مصطلح الإيديولوجيا، وميكافيللي تحدث عن رغبة “المجد عن الإنسان”