عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: اجتمعَ عند البيتِ قُرَشِيَّان وثَقَفِي – أو ثَقَفِيَّان وقُرَشِي – كثيرة شحمُ بطونِهم، قليلة فقهُ قلوبِهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمعُ ما نقول؟! قال الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا؛ فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله – عز وجل -: ﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ﴾ [فصلت: 22]؛ (البخاري: 4817).
كذلكم كان العرب قبل الإسلام، فيما يخص معارفهم عن الله – تعالى – ولذلك كانت الجاهلية التي هم فيها نتيجةً طبيعية لنقصِ معارفهم عن الله – تعالى.
قوم لا يستحضرون رؤيةَ الله – تعالى – لهم ولا سَمْعَه؛ فمن أين تكون التقوى؟! ثم أَعلَم الله -تعالى- الناسَ من أمور العقيدة ما يُقِيم اعوجاجَهم، وينفي ظلماتِهم؛ فكانتِ العقيدة الصحيحة أولَ ما جاء به الرسول – ﷺ – وظلَّت الشريعةُ – إلى أمدٍ بعيد نسبيًّا في الزمن الأول – مقتصرةً على الدستور الأخلاقي، متفرقًا بين بعض قبائل العرب.
وإنما أعلم الله – تعالى – العربَ وسائر الناس بهذه العناصر الغَيبية لعلتين:
الأولى: الهدى والبيان
فلا يجوز أن تظلَّ الحقيقة مطموسةً أو محرَّفة، والباطلُ يَرتَع في محالِّها، ويَرتَدِي ثيابَها، إنه لا بدَّ لكلِّ قادرٍ عالِم أن يَرُدَّ الأمر إلى نصابه، ويهدي الناس للحق والحقيقة، إن “عدم الهدى” قضيةٌ يجب أن تُقلِق النفوسَ السويَّة.
الثانية: الأمر والنهي:
ذلك أن الله – تبارك وتعالى – لَمَّا كان العربُ ضالِّين عن معرفة الله – تعالى – عرَّفهم من صفاته ما يَكفُل لهم الاستقامة الكاملة، إذا راقبوا آثار هذه الصفات، وعَمِلوا بمقتضاها؛ فأَعلَمَهم أنه سميعٌ بصيرٌ؛ ليراقبوا أعمالَهم أمامه، وأعلمهم أنه على كلِّ شيءٍ قدير؛ كيلا يظلمَ أحدٌ أحدًا، وأعلمهم أنه سيَبْعَثُهم، وأنه خلق جنة ونارًا؛ ليُعِدُّوا عملاً يُصلِحهم في الدنيا، ويقدموا عملاً ينجيهم في الآخرة، وهكذا يجبُ أن تكون معرفةُ كلِّ عبدٍ بالله – تعالى.
إن الباب الوحيد للإيمان بالله – تعالى – والتعرُّف عليه المعرفة التي تقتضي العمل – هو معرفةُ أسمائه وصفاته.
إن علماء التفسير حين يعلِّقون على نهايات الآياِت المختومة بالأسماء والصفات الإلهية يُوقِعُونها موقعَ السبب لأحكام الآيات، أو موقع التحذير من منكر، أو موقع الحثِّ على معروف، وهذا يَعنِي أن هذه الأحكام مقاصد لصفات الله – تعالى.
مثال ذلك: قوله تعالى -: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 226، 227].
يقول ابن القيم: “إنه – سبحانه – يعلِّل أحكامه وأفعاله بأسمائه، ولو لم يكن لها معنى، لما كان التعليل صحيحًا، كقوله -تعالى-: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾ [نوح: 10]، وقوله -تعالى-: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 226، 227]؛ فخَتَم حكم الفَيْء – الذي هو الرجوع والعود إلى رضا الزوجة والإحسان إليها – بأنه غفور رحيم، يعود على عبده بمغفرته ورحمته إذا رجع إليه، والجزاء من جنس العمل؛ فكما رجع إلى التي هي أحسن، رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة”؛ [جلاء الأفهام: 173].
كلام فيه فوائدُ كثيرة، يخصُّنا منها آخره، أن هناك مقصدًا إلهيًّا من هذه المعلومةِ العقدية؛ كون الله -تعالى- غفورًا رحيمًا، تعليقًا على رجوع الزوج لزوجته، وتناسيه الخلاف رحمةً بها وبالأسرة – يعني: أنكم ينبغي أن تكونوا رحماءَ، فتفعلوا ذلك، حتى تنالكم رحمته – تعالى – ومغفرته؛ فهي معلومة عقدية تخصُّ الإيمان بالله -تعالى- لها مقصدٌ سلوكي.
وكذلك في الطلاق حين قال – تعالى -: ﴿ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، هذه معلومة عقدية تخصُّ الإيمان بالله – تعالى – ولكن لها مقصدًا سلوكيًّا كذلك؛ فالمعنى: إن طلَّقتُم نساءكم، فلا تُوقِعُوا الطلاق جزافًا، وإن فعلتم فأَحسِنُوا الطلاق؛ لأن الله سميعٌ لِمَا تقولون من لفظِه، وعليم بما تُوقِعُون من حاله؛ فهو خبرٌ عقديٌّ، له مقصدٌ، هو التحذير الذي يَقتَضِي سلوكًا عمليًّا، وهو الامتناع من الظلم؛ خوفًا من الله – تعالى.
الأمثلة كثيرة على هذه الحقيقة العقدية؛ إنما أردتُ بهذا المثالِ فقط بيانَ كيفيةِ استنباط المقصد العقدي من خلال النصوص المخبِرة عن الله – تعالى – هكذا يجب أن تقع العقيدةُ في سمع المؤمن وبصره، وهكذا يجب أن تربَّى عليها بصيرته.