قليلٌ من الناس من يعلم أهمية الاختلاف وتعدد الآراء حول أي موضوع مطروح للنقاش الجاد، حتى أصبح البعض يظن أن تعدد الآراء وتقبل رأي الآخر هو أكبر جريمة في القرن21، بالتالي ينبغي الوقوف بالمرصاد دون أصحابها بحزم شديد. غير أن الواقع في الحقيقة يسعفنا – من حين لآخر- بأشخاص يتقبلون الرأي الآخر بصدر رحبٍ، بل يعتقدون أن تقبل الرأي الآخر هو الطريق الصحيح السريع إلى ثراء فكري يمكن أن ينهض بالعالم.
إن ثقافة الاختلاف – لا الخلاف- ثقافة مهمة لبناء وتطوير أي كيانٍ يسعى أصحابه إلى أن يصبح قبلة للباحثين عن الأفكار الناضجة التي تعتبر حجر الأساس في التطوير والبناء، في عصر يعاني من تكميم الأفواه وخنق الحريات. إننا بدون ثقافة الاختلاف سنفقد جملة من الأفكار المهمة التي كان من الممكن أن تسهم في النهوض بالدول والمجتمعات.
ينبغي الآن أن نفهم أن الحرص على إتاحة الفرصة للآخر للتعبير عن رأيه دون إصدار أحكام مسبقة، قضية واجبة في شريعة الرأي والرأي الآخر، لأن اختلافنا مع الآخرين لا ينبغي أن يكون بهدف وأْدِ آرائهم الشخصية في مهدها، لأن ذلك لا يمتُّ للوعي الحضاري بصلة، بل يمثل دعوة صريحة إلى نشر الاستبداد داخل المجتمعات. وهذا ما جعل المفكر الفرنسي فولتير يُعلن عن استعداده لدفع عمره من أجل أن يُعَبّر خصمه عن رأيه الشخصي، فقال:”قد أختلف معك في الرأي ولكني أدفع عمري لتقول رأيك”.
إن هذه المقولة تدعونا إلى الخروج من مربّع الخلاف “العدواني” إلى الاختلاف المسؤول، كي ننشر ثقافة الرأي والرأي الآخر، دون احتقار أي رأي مهما كان مضمونه، من أجل الاستفادة من مختلف العقول حول العالم، لأن:”توأم الرأي خيرٌ من الفذ”، كما جاء في حديث مقطوع.
فالحقيقة تقول إنه ليس كل رأيٍ ينبغي أن يُحكم عليه بالإعدامِ أو العصمة. لكن المطلوب أن نتقبل الآخر بـ”روح رياضية”، وأن نعلم أن رأيَ غيرنا – حتى ولو كان خصما اللدود – قد نستفيد منه فكرة ما كنا لنستفيدها إذا نحن منعناه من التعبير عن رأيه، حول القضايا التي يؤمن بها، ويخالفنا فيها.
إن ثقافة الاختلاف هي التي تجعل الإنسان يستطيع أن يستمع إلى كل الآراء المطروحة، من أجل عرضها على عقله للتمييز بين الصالح والطالح، وتقديم أفكار طموحة قادرة على انتشالنا من دركِ الخلاف المؤدي إلى العدوانية، التي دائما ما تُغيِّب أفكارا إيجابية تخدمُ مصلحة الشعوب في الحاضر والمستقبل.
لقد أفقنا من صدمة المراهقة فجأة ونحن نردد: “الخلاف لا يفسد للود قضية”. أعتقد أن هذه المقولة في الحقيقة لم تتجاوز حناجر الشعوب، حيث ظل كل خلاف في مجتمعاتنا يؤدي إلى البغضاء والشحناء، ويفسد كل القضايا السياسية والعلاقات الاجتماعية.
فالشيخ المسنُّ مثلا لا يقبل من الشاب المثقف الذي يصغره سناّ أن يخالفه في قضية رأي عام، والسبب أن الشيخ يرى أن التعبير عن الآراء أمرٌ يحتاج إلى عدد معين من السنين فقط، لا إلى مستوى من النضج والوعي بخلفيات الأمور، وهذا مجاف للواقع، فالخلاف في الرأي يعني أن هناك شخص له وجهة نظر، وهناك آخر له وجهة نظر قد تكون مغايرة، فنحن لا يمكننا أن نتفق في كل شيء، كما لا يمكننا أن نحيط بكل تفاصيل أحداث الكون:
والعلم ذو كثرة في الصحف منتشرٌ *** وأنت يا خِلُّ لم تستكمل الصحفا
ثم إن تعدد الآراء لا يعني مثلا أن صاحب الرأي الأول مخطئ، والثاني مصيب، لكنه يعكس مدى قدرة العقول على توليد الآراء والتعبير عنها من خلال وجهات نظر مختلفة، وهذه مرحلة جيدة من النضج نحتاج أن نصل إليها. يقول محمد عبد الجواد في كتابه: (أختلفُ معكَ لكني أحبك) : “الاختلاف في الرأي سمة العقول الناضجة، ودليلٌ لثراء وخصوبة وفهم القضايا المطروحة..” ص7.
أعتقد أن المسلمين هم أقل شعوب العالم اليوم تقبُّـلا لثقافة الاختلاف (فيما بينهم على الأقل)، رغم أن التاريخ الإسلامي مليء بالنماذج الشاهدة على الاختلاف في قضايا متعلقة بالعبادات، ناهيك عن قضايا الاجتماعات والقرارات، وبالتالي كان من المفترض أن يكون المسلمون أكثر تقبلا للنقد وتعدد الآراء، وأن تظل تصرفاتهم تمثل دستورا حقيقيا للشعوب الأخرى في كل مجالات الحياة.
إن أكبر دليل على وجود ثقافة الاختلاف في الإسلام، هو قضية بني قريظة المشهورة: “لا يصليَنَّ أحدكم الظهر-وفي رواية العصر- إلا في بني قريظة”. فهذا الأمر النبوي اختلف الصحابة في تفسيره، لكن هذا الاختلاف لم يصل بهم إلى درجة الشحناء، بل ظل كل يحترم للآخر رأيه، ويقدر اجتهاده.
ومن الأدلة أيضا على ذلك، اختلاف ابن عمر وابن عباس في تقييم الأحكام الشرعية، حيث كان ابن عمر يتشدد في الأحكام، بينما ظل ابن عباس على العكس من ذلك. ثم إن الفقه الإسلامي مليء باختلاف الفقهاء حول العبادات، لكنه اختلاف تنوع لا تضاد، لأن فهم إمام لقضية شرعية معينة قد يختلف مع فهم إمام آخر، لكن كل منهما يكمل الآخر. وقد صدق الشاعر العربي حين قال:
قل للذي يدعي علما ومعرفة ** علمت شيئا وغابت عنك أشياءُ
أختم هنا بسؤال أتمنى أن يجد إجابات عملية جادة، تسهم في نشر ثقافة الاختلاف بين أفراد مجتمعاتنا، السؤال هو: إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم استطاعوا تجسيد ثقافة الاختلاف في حياتهم، ومن بعدهم اختلف الأئمة والعلماء في تحليل قضايا شرعية حسّاسة، فمن أين أتينا نحن بثقافة الخلاف “العدواني”، ولما ذا وضعناها مكان ثقافة الاختلاف المسؤول؟