ورد في القرآن الكريم أكثر من (140) قصة، تناولت موضوعات متنوعة، منها: بدء الخلق، وقصص الأنبياء، وتكذيب وإهلاك أقوامهم، ولم يكن المقصد من القصة خلق المتعة أو التسلية، ولكن كان لها غايات إرشادية وتربوية لهداية الناس إلى السنن الكونية والتشريعية في تاريخ الإنسان، والقوانين التي تحكم الاجتماع الإنساني، والتي ستظل ملازمة للبشر حتى قيام الساعة، فلم تأت قصة من قصص القرآن عبثا، لكن ورودها كان لحكمة في إصلاح حركة الإنسان في الحياة.
وقد تعرض القصص القرآني لهجمات وطعون منذ نزول القرآن الكريم، فقيل عن قصصه أنها أساطير وأكاذيب، وأنها مختلقة ومنتحلة، وهي افتراءات لازمت القصص القرآني مع الاستشراق الذي أعاد تكرار كثير منها، محاولا منحها قدرا من المنهجية والعلمية.
وفي محاولة لدحض افتراءات المستشرقين يأتي كتاب “القصص القرآني في مرآة الاستشراق: دراسة نقدية” للدكتور محمود كيشانه، والصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، عام 2020، في 160 صفحة، ضمن سلسلة “القرآن في الدراسات الغربية.
خصوصية القرآن في القصص
تجاهل أغلب المستشرقين خصوصيات القصص القرآني، فشككوا في مصدريته، وزعموا أنه مستقى من قصص الكتب السابقة، وأساطير الحضارات والأمم الأخرى، وزعم آخرون أن القصص القرآني يحوي على تناقض، ومخالف لمعطيات العلم والتاريخ، وذهب اتجاه ثالث أن القصص القرآني ضعيف فنيا، لوجود تكرار في بعض قصصه، وغموض في بعض مواضعه، والإيجاز الشديد في بعض القصص، والإعراض في كثير من الأحيان عن ذكر الحوادث والوقائع.
ونسج المستشرقون مبكرا أوجه شبه بين القصص التوراتي والانجيلي وبين القصص القرآني، واعتبار قصص التوارة والإنجيل هي المرجعية عند النظر إلى القصص القرآني، وتأثرت بعض الاتجاهات العربية خاصة الحداثيين بمناهج المستشرقين، وألصقوا بالقصة القرآنية الكثير من الشبهات، منها: التشابه، والتكرار، والاقتباس من الكتب السماوية السابقة.
وقد اهتم الاستشراق اليهودي بالقصص القرآني، من زاوية التشابه بين القصص القرآني وقصص التوراة والإنجيل، مثل المستشرق “أوري روبين” Uri Rubin في ترجمته لمعاني القرآن، إذ حاول رد القصص القرآني إلى مصادر يهودية ومسيحية ووثنية، ويصر “روبين” أن القرآن اقتبس من سفر التكوين قصة الخلق، رغم الاختلافات الجوهرية بين القصتين، فالقرآن الكريم ينزه الخالق سبحانه وتعالى عن التشبه بالبشر فيما يتعلق بالتعب والراحة، على خلاف ما جاء في سفر التكوين الذي زعم باستراحة الخالق في اليوم السابع.
ويعد “روبين” من أبرز المستشرقين المعاصرين الذين ركزوا على قضية التأثير اليهودي والمسيحي في القصص القرآني، خاصة كتابه :”بين الكتاب المقدس والقرآن”، زاعما أن القرآن يسير على نهج الكتاب المقدس في قصصه، ليصل إلى نتيجة مفادها أن القرآن مأخوذ من الكتب السابقة، ومن ثم يصبح القرآن منتج بشري.
والحقيقة أن “روبين” يشير إلى المتشابه بين القرآن والكتاب المقدس في القصص، لكنه يغفل القضايا الأساسية والكبرى المختلفة بينهما، التي تؤكد استقلالية القرآن في قصصه، كذلك فإن كان زعم “روبين” صحيحا في اقتباس القرآن من التواره في قصصه، فلماذا أعرض القصص القرآني عن الأخطاء التاريخية في القصص التوراتي، ولم يذكرها في سرده للقصة؟! يضاف إلى ذلك أن الراوي في القصة القرآنية لموسى عليه السلام، هو الله سبحانه وتعالى، أما في التوراة فهو شخص جاء بعد وفاة موسى-عليه السلام بأربعة قرون، وللمستشرق اليهودي “إبراهام جايجر” Abraham Geiger كتاب بعنوان “ما الذي اقتبسه محمد من اليهودية؟”، وهذا الاستشراق أسس لقاعدة راسخة توالى تكرارها، وهي: أن القصص القرآني مقتبس من العهد القديم.
التشكيك في الأميـــة
التشكيك في أمية النبي محمد-ﷺ- كان مدخلا للزعم باختلاق القصص القرآني وانتحاله عن التوارة والانجيل، إذ أن قضية الأمية تدحض اطلاع النبي محمد –ﷺ- على التوارة والإنجيل، وهي قضية نبه إليها القرآن الكريم مبكرا في قوله تعالى:” ومَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ”[1]، فالقرآن الكريم تتبع تلك الحجج ودحضها حتى ولو كانت ساذجة، فلو كان النبي –ﷺ- اقتبس قصص القرآن من كتب أخرى، فلماذا لم يسجل قصته في القرآن على غرار ما جاء في التواراة التي سجلت قصة موسى، أو الإنجيل الذي سجل قصة عيسى عليهما السلام؟ بل إن عيسى -عليه السلام-ذكر في القرآن 25 مرة، في حين أن النبي محمد -ﷺ- لم يذكر اسمه إلا أربع مرات.
وفرضية المستشرقين في اقتباس القصص القرآني عن كتب أخرى، توجب أن يكون النبي-ﷺ- مُلما باللغة العبرية والسريانية واليونانية، ومن الضروري أن يمتلك مكتبة ضخمة، ولكن لم ترد في سيرته ﷺ- أنه أمسك بكتاب أو اقتناه، وكما يقول “جاري ميلر” Gary Miller أن القرآن لو كان من عقل محمد-كما يزعم المستشرقون- فمن المتوقع أن يعكس بعضا مما يدور في ذهنه، كما أن فرية أن القرآن هو نتاج “هلوسة” تثير السخرية، فالقرآن نص محكم، لم يخالف حقيقة علمية أو تاريخية، ولا يمكن للهلوسة أن تنتج مثل هذا النص المعجز، وكيف للهلوسة أن تنتج تنسيقا وانسجاما كالذي جاء في النص القرآني؟!.
ومضى الاستشراق في زعمه أن قصص القرآن يتماشي مع الأساطير والحكايات اليهودية، والزعم أن النبي محمد كان على علم ومعرفة باليهودية، لكن ما تسبب في حيرة المستشرقين هو أن القصص القرآني يحوي أخبارا وتفاصيل مهمة غير موجودة في الكتاب المقدس، وهنا يثور السؤال: من أين جاء القرآن بهذه التفاصيل المهمة؟ وما هو مصدرها؟ ولماذا لم ترد في الكتاب المقدس؟
ومن ثم ففرضية اقتباس القصص القرآني من التوارة والإنجيل وغيرها من الكتب لا تصمد أمام البحث العلمي، أما اتخاذ بعض التشابه بين القصص القرآني والقصص في التواراة والانجيل كدليل على انتحال القرآن لقصصه، فالرد عليها بسيط، فالكتب السماوية إلهية المصدر رغم ما أصابها من تحريف، وهذا ما يسمح بتشابه في بعض الجوانب في القصص.
وقد أخذ بعض المستشرقين على القرآن تكرار القصص في أكثر من سورة، وممن أثار المسألة المستشرق “جاك بيرك” Jacques Berque ويبدو أن جهله باللغة العربية ومضامينها وبلاغتها حال دون فهمه للقرآن، فالقرآن عندما يتناول القصة، فيتناولها من أكثر من جانب، فيكون كل موضع مكمل للآخر، كذلك فإن التكرار يهدف إلى التأكيد الذي هو أحد وجوه البلاغة في القرآن الكريم، ففي القرآن غايات ومقاصد يؤكدها التكرار للقصة من زوايا مختلفة.
يدعي بعض المستشرقين أن القرآن احتوى على أساطير، وأن بعض قصصه خيالية وغير واقعية، وهي فرية تكررت في عهد النبي –ﷺ-قال تعالى:” وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلً”[2] لذا لم يأت الاستشراق بجديد في دعواه بـ”أسطرة” القصص القرآني، فقد كرر “جاك بيرك” ما قاله أستاذه “كزيمرسكي” Kazimirski الذي ادعى أن القرآن ابتكر شخصيات واختلق مشاهد في قصصه، متخذا من سورة الكهف أنموذجا لافتراءه، وزعم “بيرك” أن هناك ثلاث روافد أثرت في القصة القرآنية، هي: الفكر اليوناني القديم، والشعر الجاهلي، والتواراة والانجيل، والواقع أن القصة في القرآن حقيقة وليست خيالا ولا أساطير، فكل قصص القرآن حقائق.
وقد حاول بعض المستشرقين اتخاذ القصص القرآني كوسيلة للتشكيك في الإسلام وإثارة الشبهات حوله، ومن ذلك المستشرق “فرانتس بوهل” Frants Buhl، كذلك حاول البعض العبور من القصة القرآنية لنقد العقيدة الإسلامية ذاتها، مثل المستشرق “ديفيد باوزر” David Bowers في قصة زواج النبي-ﷺ- من زينب بنت جحش، رضي الله عنها، لتشويه صورة النبي، ﷺ.
أما المستشرق “وليام فيدرر” William Federer فله كتاب بعنوان “ما الذي يحتاجه كل أمريكي أن يعرفه عن القرآن”[3] جمع فيه كل الأباطيل والأكاذيب ضد القرآن، من خلال إثارة بعض القضايا المتعلقة بالقصص القرآني، ومنها قصة الإسراء والمعراج، حيث زعم أنها مقتبسه من الزرادشتية عن قصة الكاهن “أردا فيراف” Arda viraf، وهي قصة ظهرت في العصر الساساني، وكانت مكتوبة باللغة الفارسية، ولا يوجد للقصة أي ذكر في الجزيرة العربية، كما أن قريشا لو علمت أن قصة الإسراء والمعراج منتحلة عن قصة “أردا فيراف” لاستخدمتها في الشغب على القرآن وقت نزوله.
[1] سورة العنكبوت: الآية:48
[2] سورة الفرقان: الآية:5
[3] What Every American Needs to Know About the Qur’an