من الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بالله من ضلع الدين وقهر الرجال، وكان يداوم على الاستعاذة من هذه الأمور في صلاته حين يقعد في الجلسة الأخيرة، وكان يأمر ويندب أصحابه إليه في روايات مختلفة عنه صلى الله عليه وسلم، فما المقصود بضلع أو غلبة الدين وقهر الرجال؟

 يقول أنس بن مالك ، وهو خادم النبي صلى الله عليه وسلم يحكي عن حالة الرسول فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال)[1].

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا أتاه يشتكي إليه الهموم التي لزمته، أن يتعوذ بهذه الكلمات، فقد روى أبو سعيد الخدري  رضي الله عنه قال: قال رجل: همومٌ لزمتني وديونٌ يا رسول الله! قال: ((أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟)). قال: قلت: بلي. قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)). قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عن ديني[2].

وقد اشتمل الحديث على الاستعاذة من ثمانية أمور تعد أصول الشر وفروعَه، ومبادئَه وغاياتِه، ومواردَه ومصادرَه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله منها.

يقول ابن القيم: استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان:

– (الهم والحزن) قرينان وهما من آلام الروح ومعذباتها والفرق بينهما أن الهم توقع الشر في المستقبل، والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي أو فوات المحبوب، وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح، فإن تعلق بالماضي سمي حزنا وإن تعلق بالمستقبل فهذا يورث الهم، وكلاهما من العجز، فإنَّ ما مضى لا يُدفَع بالحزن؛ بل بالرِّضا والحمد والصَّبر والإيمان بالقدر، وقولِ العبد: قدَّر الله وما شاء فعل.

وما يستقبل لا يُدفَع أيضًا بالهمِّ، بل إمَّا أن يكون له حيلةٌ في دفعه فلا يَعجِز عنه، وإمَّا أن لا يكون له حيلةٌ في دفعه، فلا يَجزَع منه، ويلبس له لباسَه، ويأخذ له عُدَّتَه، ويتأهَّب له أُهبتَه اللَّائقة به، ويَستجِنُّ بِجُنَّةٍ حَصينةٍ من التَّوحيد والتَّوكُّل، والانطراح بين يدي الربِّ تعالى، والاستسلام له، والرِّضا به ربًّا في كلِّ شيء[3].

ثم قال: فالهمُّ والحزن لا ينفعان العبد البتَّةَ، بل مضرَّتهما أكثر من منفعتهما، فإنَّهما يُضعِفان العزم، ويُوهِنان القلب، ويَحُولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه، ويقطعان عليه طريقَ السَّير، أو يُنَكِّسانِه إلى وراء، أو يَعُوقانِه ويَقِفَانِه، أو يَحْجُبانِه عن العلم الذي كلَّما رآه شَمَّر إليه وجَدَّ في سيرِه، فهما حِمْلٌ ثقيلٌ على ظهر السَّائر، بل إن عاقَه الهمُّ والحزنُ عن شهواته وإراداته الَّتي تضرُّه في معاشه ومعاده انتفع به من هذا الوجه.

وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلَّط هذين الجندين على القلوب المُعرِضة عنه، الفارغة من محبَّته وخوفِه ورجائه والإنابةِ إليه والتَّوكُّلِ عليه والأنس به والفرارِ إليه والانقطاع إليه؛ ليردَّها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان والآلام القلبيَّة، عن كثيرٍ من معاصيها وشهواتها المُرْدِية.

– (العجز والكسل) وهما قرينان، فإنَّ تخلُّفَ كمال العبد وصلاحه عنه: إمَّا أن يكون لعدم قدرته عليه فهو عجزٌ، أو يكون قادرًا عليه لكن لا يريده فهو كسلٌ، وينشأ عن هاتين الصِّفتين فواتُ كلِّ خيرٍ، وحصولُ كلِّ شرٍّ، ومن ذلك الشرِّ تعطُّلُه عن النَّفع ببدنه وهو الجبن، وعن النَّفع بماله وهو البخل.

هذا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لمَّا فعل الأسباب المأمور بها، ولم يَعجِزْ بتركها ولا تَرْكِ شيءٍ منها، ثمَّ غلبه عدوُّه وألقوه في النَّار= قال في تلك الحال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، فوقعت الكلمة موقعها، واستقرَّت في نصابِها، فأثَّرت أثرَها، وترتَّب عليها مقتضاها.

وكذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه يومَ أحدٍ، لمَّا قيل لهم بعد انصرافهم من أحدٍ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، فتجهَّزوا وخرجوا للقاء العدوّ، وأعطَوهم الكَيْسَ من نفوسهم، ثمَّ قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، فأثَّرت الكلمة أثرَها، واقتضت مُوجَبَها، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 – 3]، فجعل التَّوكُّل بعد التَّقوى التي هي قيامٌ بالأسباب المأمور بها، فحينئذٍ إذا توكَّل على اللَّه فهو حسبه.

فالتَّوكُّل والحَسْب بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجزٌ محضٌ، وإن كان مَشُوبًا بنوعٍ من توكُّلٍ فهو توكُّل عجزٍ، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكُّله عجزًا، ولا يجعل عجزه توكُّلًا، بل يجعل توكُّلَه من جملة الأسباب المأمور بها التي لا يتمُّ المقصود إلا بها كلِّها[4].

– (الجبن والبخل) قرينان لأنهما عدم النفع بالمال والبدن وهما من أسباب الألم لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تنال إلا بالبذل والشجاعة والبخل يحول بينه دونها أيضا فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام.

– (ضلع الدين وقهر الرجال) قرينان وهما مؤلمان للنفس معذبان لها أحدهما قهر بحق وهو ضلع الدين والثاني قهر بباطل وهو غلبة الرجال وأيضا فضلع الدين قهر بسبب من العبد في الغالب وغلبة الرجال قهر بغير اختياره.

ويرى ابن القيم أن “ضلع الدين وقهر الرجال” يأتي نتيجة العجز والكسل، فالغلبة عنده نوعان: غلبةٌ بحقٍّ وهي غلبة الدَّين، وغلبةٌ بباطلٍ وهي غلبة الرِّجال، وكلُّ هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل .

وأطلق كلمة (غلبة) على الدين، لكثرته على المستدين وغلب عن وفائه، فإنه لما أكثر من طلب المال وضعفت عزيمته على الأداء، غلب عليه الدين وقوى عليه الرجال في الطلب.

يقول الطبري: وأما الغرم وغلبة الدين الذين استعاذ منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه الدين الذي استدين فيما يكره الله تعالى ولا يجد سبيلًا إلى قضائه وإن طالبه صاحبه فهو معرض لهلاك أموال الناس ومتلف لها فهو متعرض إلى قهر الرجال بالشكوى عليه والملازمة إلى أن يوفي وكذا المستدين الذي لا ينوي وفاء الدين وعزم على جحده فهو عاصٍ لربه وظالم لنفسه[5].

أما قهر الرجال فهم الأشداء الأقوياء الشديدي الخصومة، فإذا استظفروا بالآدمي من جهة عجزه عن وفاء الدين، ومن جهة أمر من الدنيا أذلوه وقهروه، وربما اشتكوا عليه إلى الحكام وهم ألحن منه في الحجة فيأمر به بالترسيم والحبس وغير ذلك من أنواع الغلبة[6].


[1]   «صحيح البخاري» (5/ 2342 ت البغا)، ومسلم رقم (2706) في الذكر والدعاء.  

[2]  رواه أبو داود (1555)، وفي إسناده غسّان بن عوف المازني البصري، لين الحديث التقريب (5393).

[3]  «زاد المعاد في هدي خير العباد – ط عطاءات العلم» (2/ 427)

[4]  «زاد المعاد في هدي خير العباد – ط عطاءات العلم» (2/ 433)

[5]  شرح صحيح البخاري” لابن بطال (10/ 119).

[6]  «شرح سنن أبي داود لابن رسلان» (7/ 416).