ثمة سياقات متعددة تؤسس وتصنع مهادًا معرفيًا لدى الإنسان في علقه الباطن قبل أن ينضح ذلك على جوارحه وتصرفاته الفعلية، أي أن هناك فعلًا منصهرًا داخليًا يسبق الفعل الواقعي بعدة مسافات، هذا الفعل ناتج على السياق المعاش أي كان نوعه، ثم يترجم بعد ذلك إلى حالات من الانطواء والعزلة، إنها بداية الاغتراب الفردي والشعور بالعزلة عن الآخرين، وهذا في أصله وأساسه راجع إلى ” قضية المتغيرات الاجتماعية [فهي] من الصعوبة بمكان، بحيث تنطوي على أمور معقدة ومتعددة الاتجاهات والمستويات في أي بيئة .

وإن استمرار التغير في المجالات المختلفة لمّا يؤثر في النشاط الإنساني عند الفرد والجماعة سلبًا وإيجابًا على نحو ما، وسنة التطور والتحول الإنساني تواكب حياة الناس، وتلاحق المجتمع في أي مكان وزمان، لكن بدرجات متفاوتة سرعة وبطأً كمًا وكيفًا . من ثم ينشـأ صراع متعدد الجوانب حول القيم الإنسانية أو النظم السياسية والاقتصادية ، أو التطور في وسائل الاتصال أو التغيّر الاجتماعي في التقاليد والعادات وأنماط السلوك، أو القضايا التشريعية ، أو مواجهة المجتمع للأحداث واستقباله لكل مظهر جديد وافد ؛ ولكن ثمة أثر للصراع بين القيم الإنسانية والتقاليد ، وبين القديم والجديد ؟

إن جوهر الصراع بين القيم الإنسانية والتقاليد كثيرًا ما يؤدى إلى الرفض والتمرد والثورة على أساليب العيش ، أو هو – على أقل تقدير – باعث على الإحساس بالغربة والوحدة والحيرة ، وعدم القدرة على التواؤم مع المتغيرات الاجتماعية والتوافق مع الجو العام، إلا أن ذلك يحدث في أحوال تختلف ، قوة وضعفًا . ولقد يشعر المرء وهو بين جماعته وقومه بالغربة ، بل ويحس بها في داخله أحيانًا،  وتلك بعض من أزمات الإنسان ومن أمراضه،  وهو منشغل بشتى الأعباء المادية ، ومثقل بالصدمات النفسية ، وما ينشأ عنها من إحباط  وقصور يعوق حركته في محاولاته اللحاق بإيقاع الحياة السريع والمتتابع في كل اتجاه، وليس غريبًا أن يشعر المرء – والحال كذا – بالضياع ، وقسوة الوحدة النفسية، والإحساس بالعجز والحيرة،  فينكفي على (الذات) ويتخذها محوراً لحياته كلها ، وذلك لما انتابه من تمزق داخلي، وألم نفسي. من ثم تتسرب بواعث الغربة إلى روحه ، وتسرى في كيانه ، حتى ليكاد المرء أن يصير غريباً عن كل ما يحيط به ، إما لعدم استطاعته تحقيق طموحات الذات المستترة ، أو لضعف القدرة على مواجهة الضغوط الخارجية ، أو اختلاف التوجه والفكر ، فمن الاغتراب  ما يوحى بقسوة النفس ،ويبعث على الأسى”(1‏).

وابن باجة من الذين تنبهوا لهذه القضية في كتابة العظيم” تدبير المتوحد” ، فهو بمثابة واضع للأسس في تللك القضية، فإن ” الغربة التي يعيشها الإنسان وتعايشه في واقعه الاجتماعي هي غربة الأفكار والمفاهيم، أي طبيعة أفكاره ومفاهيمه، تختلف تماماً عن الأفكار السائدة. فهو في داخله ينشد صورة المجتمع العادل الذي تأتلف فيه القيم الإنسانية العليا، وحين يفتقدها في حياة مجتمعه وقد أنهكته الصراعات الطائفية والقبلية والتحالف مع الأعداء ضد بني العمومة أو الخؤولة يرى ذلك.

و “تدبير المتوحد ” وهو وسيلة رمزية في النقد الاجتماعي. أراد ابن باجة أن يبين فيه انحطاط الواقع الاجتماعي والأخلاقي عن قيم الإسلام، والإنسانية، مظهراً فيه مدى تفسخ العقائد الدينية على يد هؤلاء الساسة الذين لم يرتفع مستواهم إلى مستوى المبادئ الإسلامية التي يحملون لواءها ويبشرون بها. كما يعتبر وسيلة من وسائل النقد الراقي، أراد منه ابن باجة: إشاعته أو إظهاره في وقت كثر فيه الحديث عن الإسلام والعمل به، بينما واقع المسلمين يورطهم ويلطخ من سمعتهم ويقيم عليهم وزرهم ببعدهم الشديد عنه. «فابن باجة» أراد أن يضع مبادئ معيارية لمحاسبة الذات العابثة.(2)

إن فلسفة الاعتراب ناشئة عن عوامل متعددة تتضافرت جميعها على الإنسان حتى أوصلته إلى العزلة التامة، والاغتراب سواء كان مكانيًا  أو زمانيًا ، أو نفسيًا ، أو شخصيًا  أوجماعيًا ، فإنه بذلك يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها، فبدلًا من أن يكون الإنسان نافعًا عاملاً في مجتمعه، يصبح جراء هذا الفعل معطل منعزل منطوي على ذاته، يصارع الحياة وتصارع، يتحرك في دائرة قطرية لا يمكن الخروج عنها .


( 1) على عبد الخالق على: ظاهرة الاغتراب وصداها في الشعر المعاصر بمنطقة الخليج ، مجلة مركز الوثائق والدراسات الإنسانية، العدد السابع ، 1995م، ص97.


(2) ابن باجة وفلسفة الاغتراب: محمد إبراهيم الفيومي، دار الجيل ، بيروت ، 1988م .