انتصرت اليابان على روسيا عام 1905 بعد سلسلة معارك امتدت قرابة العام، كان أهمها معركة “موكدين”[1]  فمجدها الشعر العربي قبل الأدب الياباني، فكتب أحمد شوقي قصيدة “عندما انتصرت اليابان”[2] ، وكتب حافظ إبراهيم قصيدته “غادة اليابان”[3]، دمر الأسطول الياباني في تلك الحرب الأسطول الروسي، وأعطى هذا الانتصار بصيص أمل للأمم الشرقية –التي كانت اليابان تنتمي إليها في ذلك الوقت- في الانتصار على الغربيين، وأصبحت صورة القائد الياباني “هيديكي توجو” مشهورة في القاهرة.

 

ورغم هذا الاهتمام المبكر باليابان وأحداثها وانتصاراتها، إلا أن العرب والمسلمين نظروا إلى تلك الأرض ذات الشمس المشرقة من منظورهم فقط، أي من سؤالهم في التغلب على التحدي الاستعماري الغربي، غير أن اليابان عندما أخذت في السير في نموذجها التحديثي غابت عن الذاكرة العربية، ولم تسترعي الاهتمام العربي إلا مؤخرا وعبر عدد محدود للغاية من الكتب والدراسات والمختصين، فغابت العبرة التي كان من الواجب أن تكون محل التأسي في النهوض، وأصبح ما يلفت نظرنا إلى اليابان هو صناعتهم المتميزة، و”الربوت” الذي يحاكي الإنسان، أما كيف نهضوا؟ أو تغلبوا على تحدياتهم فلم يكن سؤال مطروحا على العقل العربي، الذي لم يرى النهضة إلا في النموذج الغربي تحديات وإجابات.

ورغم أهمية كتاب “البعثات التعليمية في اليابان والمغرب:من أربعينيات القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين، تباين المقدمات اختلاف النتاج” تأليف الأكاديمي المغربي “يحيى بولحية”[4] ، إلا أن قضية الكتاب لم تأخذ من الجدل العربي إلا قليلا، ونسعى في هذا المقال للتوقف عند بعض ملامح التجربة اليابانية في بعثاتها التعليمية للغرب، وكيف استطاعت أن تجيب على سؤال التحديث ببراعة، وأن تقيم التوازن بين متطلبات التحديث والخصوصية اليابانية، لتقدم نموذجا مختلفا عن الغرب، وتبني مسارا مغايرا حقق نجاحا باهرا.

لا نهضة بلا تحدي

النهضات لا تشأ بلا تحديات كبيرة، هذا الدرس الكبير في التجربة اليابانية، فالتحدي يجب أن يخلق استفزاز لمواجهته وإصرارا للتغلب عليه، فقد عرفت اليابان خطها التحديثي منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى الفترة المعاصرة على مرحلتين متباينتين من حيث الأهداف والغايات التي وجهت سياستها الداخلية والخارجية

الأولى: (1868-1945) وكانت عمليات التحديث تخدم الأهداف العسكرية، وشعار تمجيد القوة هو المسيطر، ونتج عن ذلك دولة عنصرية، بكل ما تحمله الكلمة من معان مخيفة ودموية وتدميرية.

الثانية: (بعد العام 1945) وبدأته اليابان بنقد تجربتها السابقة، وتأسيس منطق آخر للسياسة داخليا وخارجيا، والاتجاه بالتحديث نحو السلام، وقبول الآخر، ورفض العنصرية.

ويلاحظ أن التجربتين التحديثيتين انطلقتا بعد تحديين عسكريين مباشرين في عام 1853 مع حملة “بيري”[5]، وفي العام 1945 م بعد هيروشيما ونجازاكي، والوجود العسكري الأمريكي في اليابان.

ولكن ما هو دور البعثات التعليمية في النهضة اليابانية؟

هناك عدة عوامل أثرت في الثقافة اليابانية، لعل أهمها فكرة التضحية المتغلغلة في المجتمع الياباني، حيث توصف اليابان بأنها الدولة العائلية الوحيدة في العالم، وعلى المستوى الثقافي كانت الصين في العصور القديمة هي قبلة اليابانيين في التعليم والثقافة، والمكان الرئيس لتكوين النخبة اليابانية، وكان التأثير الصيني عميقا وقويا، لكن مع القرن الخامس عشر الميلادي بدأ المد الصيني الثقافي ينحسر تدريجيا، وفي تلك الفترة كانت اليابان تعيش عزلة كبيرة، حتى إن أول اتصال بين مسئول رسمي ياباني والغرب كان عام 1613م، وكان السفر إلى الخارج ممنوع لليابانيين بعد قرار صدر عام 1630م.

وبالتالي توقفت البعثات التعليمية إلى الصين، لكن استطاع سياسي ومثقف بارع هو “هو هاكوسكي آراي” عام 1720 تخفيف حدة هذه السياسة بعد رفع حظر استيراد الكتب الأوروبية غير المتعلقة بالمسيحية، وإلى دارسة العلوم الأوروبية، ومع نهاية القرن الثامن عشر أخذ الطلبة اليابانيون يدرسون علوم التشريح والفلك، وأصدروا أول قاموس ياباني-هولندي، وأخذ بعض اليابانيين يتعلمون اللغة الألمانية.

البعثات التعليمية اليابانية والتحديث
أول بعثة يابانية إلى الولايات المتحدة عام 1860

ويمكن القول أن الذهنية اليابانية كانت تمتلك مقومات الفعل التحديثي، فكانت تعرف ما تريد لتنهض، لكنها افتقدت العوامل الموضوعية التي تسمح بتمدد ذلك الفعل، فاليابان في مرحلة العزلة لم تنغلق عن الثقافة الأوروبية، ومثلت البعثات آلية للتجسس لمعرفة سبب التفوق الغربي، فكانت تستهدف التقاط معلومات عن نقاط القوة الغربية بهدف الرد على تحديها المادي والمعنوي.

وقد بدأت البعثات اليابانية إلى الغرب عام 1860 للولايات المتحدة، وسبقتها في مارس 1856 إقامة مؤسسة يابانية اعتنت بالدراسات الغربية، واحتضنت تلك المؤسسة الطلاب النابغين في الدراسات الغربية، وكانت تختار منهم من ينتقل للدراسة في الغرب، كذلك كان هناك حضور المرأة المبكر في البعثات، ففي 1863 تم إرسال خمس فتيات.

كانت البعثة الأولى مكونة من (77) شخصا، وكلف أعضاؤها بوضع تقارير مفصلة عن الحضارة الغربية، وكان أصغرهم سنا يبلغ (35) عاما، وأكبرهم يبلغ (47) عاما وهو ما يعني أننا أمام شخصيات ناضجة ولها موقف فكري، فكان اختيار الأفراد واعيا، بل تم اختيار بعضهم ممن يتخذون موقفا متشددا من الغرب، والشيء المهم في تلك البعثة اكتشاف اليابانيين حجم  تفوق الغرب، فتهيأت نفوسهم  لقبول الهزيمة، والتأسيس لمشروع المدافعة والمغالبة، ولعل هذا ما جعل اليابانيين يبحرون بعد أعوام قليلة في سفينة بخارية عبر المحيط الهادي دون مساعدة أي خبراء أجانب، واستغرقت الرحلة 37 يوما.

وفُرض على أعضاء البعثة رقابة صرامة، وبالتالي احتفظوا بمسافة واضحة من ثقافة الآخر الأمريكي، وعندما عادت البعثة تم تمكين الكثير من أعضاءها من تأسيس الصناعات والمعارف.

كانت المؤسسة اليابانية المعنية بدراسة العلوم الغربية تسمى “مؤسسة دراسة كتب البرابرة” لكن في العام 1862 تم تغير الاسم إلى “مؤسسة دراسة الكتب الغربية” ، وفي ذلك العام تم إرسال بعثة من أربعين فردا إلى أوروبا، بهدف التعرف على الحضارة الأوروبية، وكان الاهتمام الأكبر هو صناعة السلاح .

لقد كشف التحدي الغربي خاصة العسكري حجم التراجع الياباني وأماكن الخلل في بنية المجتمع، لكن أدرك الساسة أن العلاج يكمن في المعرفة، ورغم أن البعثة اليابانية عاشت في عزلة إلا أنها تلمست معالم الحضارة الغربية في ذلك الوقت، وعرفت أزمة الإدارة اليابانية، فقد كان كل عضو في البعثة يعرف دوره، ورغم أنه لم يكن إلا خمسة طلاب يجيدون الإنجليزية إلا أنهم استطاعوا معرفة الكثير عن النظم الغربية، وأهم شيء أمسكت به البعثتان هو أن الثقافة الصينية عدو قاتل لعملية التحديث الياباني، وأنه يجب القطيعة بشكل أو بآخر مع روافدها.

وخلال الفترة بين عامي 1862 و1867م تم إرسال 82 طالبا يابانيا للدراسة في الخارج، وأوجد الانقسام السياسي الداخلي في اليابان حالة من المنافسة على الاستقواء بالعلم والتمكن التقني لامتلاك الداخل والسيطرة على مقاليد الأمور، وعلى المستوى السياسي كانت خطوات الانفتاح تتسم بالبطء والتريث، وربما هذا ما قلل نسبيا حجم صدمة التحديث في تلك الفترة.

بعيدا عن الغزو الفكري

كانت البعثات التعليمية تُعين الأكبر سنا كمراقب على بقية الطلبة لتحقيق الانضباط، وتحقيق غرض التفوق على الأقران الغربيين، وهو ما حقق تقدما باهرا، وكان طلاب البعثات يسجلون مشاهداتهم في كراسات خاصة، واقتصرت البداية في البعثات على التقنية والإدارة وليس العلوم التي تعيد صوغ الإنسان من جديد، وبالتالي ظل الاقتباس من الغرب بعيدا إلى حد ما عن الهوية.

الأمر المهم في التجربة أن اليابانيين آمنوا بسمو مكانتهم، لكنهم أقبلوا على التعلم بتواضع شديد من الغربيين دون أن تحركهم وطنية زائفة تدفعهم إلى الرهبة من الآخر أو ما يسمى بـ”الغزو الفكري”، واستهدف مهندسو التحديث مراعاة أمرين: اللحاق بالغرب، والحفاظ على وحدة اليابان، وهذا ما فرض إدماج المتعلمين تعليما حديثا في بنية الدولة، وخلال خمسة وعشرين عاما كان عدد المبتعثين حوالي ألف شخص.

لكن تميز العدد بأنه جمع طلابا ومسئولين كبار في الدولة، وفي عام 1873 مثلا خصص 21% من ميزانية التعليم للبعثات الخارجية، وهو ما يؤشر على الاهتمام الواضح بالبعثات، وفي إحدى السنوات كان نصف أعضاء الحكومة اليابانية مع الطلاب المتعلمين للدراسة في الخارج، وكان الهدف “جنى عوامل الذكاء في الغرب” أي أنها كانت تعرف المجهول الذي تبحث عنه، وشروط نقله، ففي بعثة 1860 أرسل الإمبراطور رسالة إلى أعضاءها أورد فيها عبارة ذات دلالة مهمة حيث يقول:”علل الوطن الكبيرة تستدعي علاجا فوريا”.

كان طلاب البعثة يسجلون كل شيء، فمثلا المؤرخ “كينتاكي كومي” نشر خمسة مجلدات عن بعثته عام 1878م، وذكر “كومي” أن برنامج عمل البعثة بدأ لحظة توقف القطار في بريطانيا، فتم زيارة مصانع الحديد والقطارات، ولم يدخلوا أمكان إقامتهم إلا مع الليل وتناولوا طعامهم بالكاد، وراعى اليابانيون توفير الشروط والحياة الملائمة للمبتعثين حتى ينجزوا أهدافهم بكفاءة وفي مدة قصيرة، فلم يتركوا الطلاب نهبا لتدبير أمور معاشهم، وأمورهم الحياتية التي تستهلكهم، ولكن تكفلت سفارة اليابان بهذه الأمور…كانت مهمة البعثات اختصار الزمن.


[1] المعركة الحاسمة والنهائية جرت في موكدين الشمالية في أواخر شباط وبدايات آذار في عام 1905 بين القوات الروسية البالغ عددها 330 ألف رجل والقوات اليابانية البالغ عددها 270 الفاً. بعد قتال طويل وعنيد من الجانبين قام الجنرال الروسي كورباكتين بسحب قواته من موكدين والتي سقطت في أيدي اليابانيين وكانت خسائر المعركة ثقيلة بصورة استثنائية، حيث قتل ما يقرب من 89 ألف من الروس وقرابة 71 ألفاً من اليابانيين.

[2] تقول قصيدة أحمد شوقي

له في نصرة اليابان حكمته.. لا يُسأل الله عن فعل ولا شان

رأى اليهود أقاموا المال.. ربَّهمو وآل عيسى أجلّوه كديان

 وقوم أحمد قد ضلوا شريعته .. وضيعوا كل إسلام وإيمان

 تفرّق الكل في أديانهم شيعا ..وأحدثوا بدعا في كل أزمان

 فقال أنصر خلقا لا إله لهم.. أنا الغنيّ عن العُبّاد سبحاني

لعل إيتو وتوجو والمكاد إذا ..راموا الهدى عرفوني حق عرفاني

(إيتو  هيوبومي: سياسي ياباني-وهيديكي توجو: قائد الأسطول الياباني في الحرب-المكاد هي معركة التي انتصرت فيها اليابان وتسمى موكدن)

[3] من قصيدة “غادة اليابان” لحافظ إبراهيم

لا تلمْ كفّي إذا السِّيف نبا ..صحَّ مني العزمُ والدهرُ أبى

رُبَّ ساعٍ مُبْصرٍ في سعيهِ..أخطأ التوفيقَ في ما طلبا

مَرحباً بالخطب يبلوني إذا ..كانتِ العلياءُ فيه السببا

[4] الكتاب صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة، في أكثر من 840 صفحة، عام 2016

[5] حملة بيري كانت اليابان متشبثة بخيار العزلة، لكن الولايات المتحدة أجبرتها على الانفتاح بأسطول قاده بيري عام 1853، حيث طالبت بفتح الموانيء اليابانية أمام البضائع الأمريكية،وأمهل بيري اليابانيين عاما للرد على مذكرته، واضطرت اليابان لتوقيع معاهدة للسلم، واعتبر اليابانيون ما جرى أول إهانة عالمية لليابان