الدين كاعتقاد ومفهوم وممارسة، ما يزال عصيا على الشطب من حياة الإنسان، فهو رؤية للوجود، ومعنى ومعيار، وخريطة للمصير بعد الموت، وهو تسليم من الإنسان بأن هناك من يعلوه ويسمو عليه، وله الحق في الأمر والنهي، غير أن محاولات الالتفاف على الدين لا تنتهي، ومساعي تذويب الاعتقاد لا تتوقف، ومن بينها الدعوة إلى “التعددية الدينية” بحجة الحفاظ على السلم والطمأنينة في المجتمعات، والحيلولة دون هدم صروح التعايش بين الناس، لكن ما تُبطنه تلك الدعوة من الناحية الفلسفية يتجاوز رغبات التعايش، إلى صهر الأديان في بوتقة واحدة، رغم ما بينها من تناقض وتنافر، فيغيب الحق والحقيقة.
ويناقش العدد الـ(25) من فصلية “الاستغراب” هذا التوجه في ملفه “التعددية الدينية: لوابسُها وشُبُهاتها”، من خلال مقاربة معرفية نقدية تجادل المباني والأسس التي ترتكز عليها رؤية “التعددية الدينية”، والسجالات الدائرة حولها، خاصة في ظل وجود حالة جاذبية للمفهوم سببتها الصراعات السياسية والدينية والاجتماعية في العالم .
التعددية الدينية فلسفيا
“التعدد الدينية” هي إحدى ثمار العقل الحداثي رغم جذورها العائدة إلى الإغريق، فهي مسعى للتكيف أنتجه العقل العلماني، للابتعاد عن كل ما هو مقدس أو ميتافيزيقي، والانجذاب تجاه كل ما هو تاريخي ووضعي.
وتعني من الناحية الفسلفية “ضرورة الاعتراف المعرفيّ- وليس فقط الاجتماعيّ والأخلاقيّ- بكافّة الأديان والمذاهب، وإعطاء المعذوريّة للمؤمنين بها، وبالتالي عدّلت من مفهوم النجاة الذي كان يعني في الماضي حصر الخلاص في طائفة دينيّة واحدة بحيث صار أكثر شمولًا واتساعًا، ليشمل أكثريّة أبناء الدِّيانات والمذاهب، كما عدّلت من مفهوم التعايش من مجرّد كونه ضرورة مرحليّة إلى حاجة إنسانيّة ثابتة”، فهي ترى أن جميع الأديان تتشابه وتتساوى في الحق، وأن الدين الحق ليس معلوما، ومن ثم فهي تهدف إلى تفسير الوجود، والمعرفة، والسلوك في ضوء مبادئ متعدّدة في الآلة والمقدسات والغايات والحقائق والقيم والأخلاق.
ويعد “جون هيغ” John Hick من أشهر روادها، وعرفها بقوله:”التعدّديَّة الدّينيَّة هي وجهة النظر القائلة إنّ الأديان العالميّة الكبرى، إنّما هي بمثابة تصوّرات وأفهام عن الحقيقة الإلهيّة الخفيّة العليا الواحدة، واستجابات مختلفة للحقيقة النهائيّة المطلقة، أو الذات العليا من خلال ثقافات الناس المختلفة، وأن تحوّل الوجود الإنسانيّ من محوريّة الذات إلى محوريّة الحقيقة يحدث في كلّ الأديان بنسب متساوية”، و”هيغ” متأثر برؤية ” فريدرك شلايرماخر” Friedrich Schleiermacher القائلة بأن للدين لُب وقشور، واللب هو الانسلاخ عن الذات والإيمان بالخالق، أما القشور فهي كافة التعاليم والأحكام والشعائر، وهذه الرؤية تُقصي الوحي حقيقة ودورها من الدين، لتعيد تأسيس الدين كعلاقة بين الخالق والإنسان على تطور تاريخي، استطاعت من خلاله المجتمعات تطوير الدين، أي أن الدين منتج اجتماعي وليس وحيا إلهيا.
هذه الرؤية الفلسفية تنقل “التعددية الدينية” من إمكانية التعايش وتحجيم التعصب بين أهل الأديان، إلى قضية فلسفية ترتكز على تعدد مصادر الحقيقة، وتنوع سُبُل الهداية، وتعدد مظاهر القداسة ووفرتها، وهو ما يجعلها هشة من الناحية الأيديولوجية، وقد استخدم “هيغ” مجموعة من الألفاظ الفضافضة، غير واضحة المعالم، مثل: التاريخ المشترك، والمجتمع العالمي، واللاهوت المعولم، كمحاول لتمرير رؤيته لتفكيك الأديان والجمع بينها في بوتقة واحدة، يحدد “هيغ” معاييرها وأسسها، وهو ما يقود إلى سلب اليقين الدينيّ من قلوب المتديِّنين وأفئدتهم، والخوض في شكوك وريب مطلقة تنتهي بترك الدين بصورة نهائيّة.
وتنظر “التعددية الدينية” إلى الدّين لا كوحدة متماسكة من منظومة عقائد ورؤى مقدّسة نزلت من مصدر متعالٍ مقدّس خبير عليم بشؤون البشر وما ينفعهم، إلى النظر للدين كظاهرة اجتماعيّة تاريخيّة وجغرافيّة، ومن ثم يصبح الخلاص في الآخرة مفتوحا أمام الجميع، أو كما يطلق عليهم أحد رجال اللاهوت الكاثوليك ، وهو “كارل رانر” Karl Rahner “المسيحيّين المجهولين” Anonymous Christian الذين يدخلون الجنّة بصرف النظر عن العرق أو اللون أو المعتقد، يقول “رانر”: “إنّ علينا أن نعتبر العديد من غير المسيحيّين أشخاصًا وأديانًا، مسيحيّين في الواقع، فلو عاش المسلم حياةً اتسمت بالاستقامة والتقوى، لم يرتكب فيها ما يتنافى والمسيحيّة، فهو مسيحيّ عند الله، ونحن أيضًا نعتبره كذلك” وهي رؤية تستبطن المسيحية كمعيار وسبيل وحيد للخلاص.
وقد جرى تسويق مفهوم “التعددية الدينية”، فنجد –مثلا- المفكر الإيراني “عبدالكريم سروش” في كتابه “الصراطات المستقيمة” يرى أن “اختلاف الأديان ليس اختلاف الحقّ والباطل، بل هو اختلاف الحقّ والحقّ”، وهو قول لا يصمد أمام الحقيقة الدينية، فكيف يمكن وضع عقيدة التوحيد والتنزيه، مع عقيدة التثليث، والتثنية، والتجسيد والتشبيه وإنكار وجود الخالق، سبحانه وتعالى، وفي الإسلام لا يوجد إلا صراط واحد، قال تعالى:” وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ “[1] .
نقد التعددية الدينية
طرحت “الاستغراب” في ملفها الكثير من الانتقادات لأطروحة “التعددية الدينية”، لعل من أهمها أنها تجعل معرفة الخالق، سبحانه وتعالى، قادمة من مناهج العلم المادي، وهو ما يؤسس للإلحاد، كذلك ينظر أصحاب هؤلاء إلى أطروحتهم على أنها الحقيقة التي تحكم عالم الأديان، فمقولاتهم فوق حقائق الأديان جميعاً، كذلك ترى الأطروحة أنّ الدين الحقّ غير معلوم أساسًا، وأنّه لا حقيقة مطلقة واحدة، كما أنها تضع الأديان جميعها في خانة واحدة، وتعتقد بتشابهها وتساويها من حيث إنّها جميعًا حقّ، أو جميعًا باطلة، أو جميعًا لا تخلو من شوائب، وهذا ما لا يقبله صاحب أيّ دين، وإلّا ما كان ثمّة مبرر لاعتناق دينًا ما دون غيره ما دامت كلّ الأديان تعبّر عن حقيقة واحدة، إذ كيف يكون الاختلاف بين المسلم والبوذيّ اختلافًا بين الحقّ والحقّ؟! أو اختلافًا على مستوى القشور وليس اختلافًا بين الحقّ والباطل، ومن ثم لا يمكن لأي دين أن يكون مركزًا حصريًّا للحقيقة، أو كبديل أوحد للخلاص والانعتاق؛ بل تصبح أديان الكون برمّتها استجابات متعدّدة ومتنوّعة لحقيقة لاهوتيّة واحدة، ويرى هؤلاء أن الدين هو نتاج تفاعل البيئة الثقافيّة مع هذه الأفكار، بحيث يتولّد منها معتقدات وتقاليد وممارسات وعلاقات، تتطوّر عبر الزمن، ومن ثمّ لا يملك أي دين صلاحية الحكم على غيره بالصواب أو بالخطأ، كما أن الأطروحة تفسّر الأخلاق بمعزل عن الإيمان والاعتقاد.
ويلاحظ أن “التعددية الدينية” تعلن أن هدفها وقف الاحتراب بين أتباع الأديان، غير أنها لم تنظر في داخل كل دين عن القيم التي تؤسس للتعايش واحترام الآخر ورفض التعصب، والأغرب أنها تحول فكرة التعدّديّة الدينيّة في الثقافة الغربيّة إلى حقيقة كلّيّة يُبنى عليها كلّ نقاش بين الأديان الكبرى، وهذا ما يجعلها غير بعيدة عن التوظيف الأيديولوجي في مشروع الحداثة الغربية، وقد رفضها القرآن الكريم رفضا صريحا، في قوله تعالى “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ”[2] وقوله تعالى: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ”[3].
[1] سورة الأنعام: الآية :153
[2] سورة آل عمران: الآية: 19
[3] سورة آل عمران: الآية: 85