ليس أمام العالم سوى عشرة أعوام فقط لخفض الاحتباس الحراري بمقدار 1.5 درجة مئوية، لمواجهة الآثار الكارثية للتغير المناخي، وفق تحذير وجهته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ للعالم في تقريرها الأخير الصادر مطلع أكتوبر الماضي.
فمن دون اتخاذ إجراءات سريعة، فإن التغير المناخي وظواهر الطقس المتطرف وارتفاع مستويات سطح البحر سيعرِّض حياة مئات الملايين من البشر لمخاطر جمة. ووفق دراسة جديدة فإن آثار التغير المناخي قد تمتد أيضًا إلى الصحة العقلية للإنسان وتؤدي إلى تدهورها وتراجعها بدرجة كبيرة.
تكشف الدراسة التي نُشرت نتائجها مؤخرًا في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية “PNAS”، أن التعرُّض قصير الأمد للطقس الأكثر تطرفًا، وارتفاع درجة الحرارة على مدار عدة أعوام، وكذلك التعرض للأعاصير المدارية يرتبط بتدهور الصحة العقلية.
وأشار الباحثون إلى أن تأثيرات تغير المناخ من المرجح أنها تقوض الصحة العقلية من خلال مجموعة متنوعة من الآليات المباشرة وغير المباشرة.
باستخدام بيانات الأرصاد الجوية اليومية مقترنة بمعلومات جُمعت مما يقرب من مليونين من سكان الولايات المتحدة، أُخذت منهم بشكل عشوائي عينات على مدار عقد كامل، وجد الفريق البحثي أن الحياة مع درجات حرارة أكثر ارتفاعًا ومعدلات أعلى من هطول الأمطار فاقمت معدلات الإصابة بأمراض الصحة العقلية، ذلك أن زيادة الاحترار لسنوات متعددة ارتبطت بزيادة انتشار مشكلات الصحة العقلية، كما أن التعرُّض للأعاصير المدارية التي من المرجح أن تزداد وتيرتها وشدتها في المستقبل، وفق الدراسة، يرتبط بالأمر ذاته.
واستعانت الدراسة في جمع البيانات بالمناطق المدمرة نتيجة إعصار كاترينا الذي وقع في أواخر أغسطس 2005 وأدى إلى واحدة من أسوأ الكوارث في تاريخ الولايات المتحدة وأثر على ملايين الأفراد في المدن الأمريكية المطلة على ساحل خليج المكسيك.
محددات السلامة النفسية
أجريت الدراسة على عينة عشوائية تتكون من مليونين من المواطنين الأمريكيين على مدار عشرة أعوام، وأظهرت أن الأفراد الذين جرى تتبع بياناتهم يعانون من الضغط العصبي والشعور باليأس.
اعتمدت الدراسة على النتائج المأخوذة عن مركز مراقبة الأمراض والوقاية من المخاطر السلوكية BRFSS)) بين عامي 2002 و2012.
وخلال الدراسة، أجاب الأفراد الذين شملتهم العينة عن أسئلة حول صحتهم العقلية، تشمل الإجهاد، والاكتئاب، والمشكلات العاطفية، والإجابة عن سؤال محدد أيضًا: خلال الثلاثين يومًا الماضية، كم عدد الأيام التى شعرت فيها بأن صحتك العقلية لم تكن على ما يرام؟
فحص الباحثون ثلاثة أنواع من الضغوط البيئية المحتمل أن ينتجها تغير المناخ، وهي: التعرض للأحداث المناخية على المدى القصير، والاحترار متعدد السنوات، والتعرض الحاد للكوارث الطبيعية، مرتكزين على بيانات الصحة العقلية وبيانات الأرصاد الجوية اليومية؛ من أجل التحقيق في العلاقة التاريخية بين التغيرات المناخية والصحة العقلية. إذ يمكن لهذه العلاقات التاريخية المساعدة في تقدير حجم المخاطر التي يشكلها تغير المناخ على الصحة العقلية.
أشارت الدراسة إلى ثلاثة عوامل أساسية تحدد السلامة النفسية للإنسان، هي الحالة الاجتماعية والحالة الاقتصادية والحالة البدنية، ومن خلال تهديد هذه المحددات الثلاثة، يؤدي التغير المناخي إلى حدوث الاضطرابات النفسية التي بدورها تفاقم الصحة العامة، وتقلل من الإنتاجية، وتقلل من جودة الحياة؛ إذ تزيد درجات الحرارة المرتفعة من المخاطر على الصحة الجسدية، وتضر بالنشاط الاقتصادي، وتحفز الصراع الاجتماعي، وتسبب الهجرة القسرية.
حزن إيكولوجي
يقول “نيك أوبرادوفيتش”، الباحث بمعهد “ماساتشوستس” للتكنولوجيا في جامعة كامبريدج، والباحث الرئيسي في الدراسة: إن الكثير من الأشخاص الذين يعانون من أعراض اضطرابات الصحة العقلية نتيجة العوامل المناخية غالبًا لا يسعون للعلاج، أو لا يجدون الاهتمام اللائق بحالتهم إذا كانوا قد عانوا من بعض الأعراض وسعوا للعلاج.
ويضيف “أوبرادوفيتش” في تصريح لـ”للعلم”: “إن الدراسة ركزت في تقصي العلاقة بين تغير المناخ والصحة النفسية على الأحداث المناخية المنفصلة والظواهر الجوية المتطرفة في المقام الأول؛ إذ يرتبط التعرض للأعاصير والفيضانات بأعراض الاكتئاب الحاد بالإضافة إلى حالة الاضطراب التي تصيب الإنسان بعد تعرُّضه للصدمة”.
وأوضح أن ارتفاع درجة الحرارة والجفاف يزيدان من مخاطر الانتحار، كما يزداد معدل الزيارات إلى المستشفيات النفسية خلال فترات ارتفاع درجات الحرارة.
التمتع بصحة عقلية سليمة يُعد أحد المتطلبات الحرجة لتحقيق عامل الرفاهية للإنسان- ما يمكن أن يتم تقويضه بسبب تغير المناخ، وفق الدراسة. في هذا الصدد، أُجري عدد قليل من الدراسات على نطاق واسع بغرض الفحص التجريبي لهذه الفرضية.
تُظهر نتائج الدراسة الأخيرة، أن التعرض قصير الأمد للطقس الأكثر تطرفًا وارتفاع درجة الحرارة على مدار عدة أعوام، والتعرض للأعاصير المدارية، كلاهما يرتبط بتدهور الصحة العقلية.
“لم نتمكن في تلك الدراسة من الوقوف على التأثيرات طويلة المدى التي قد يثيرها ارتفاع مستوى سطح البحر على الصحة العقلية، بما في ذلك الهجرة القسرية، وتكاليف معالجة آثار الفيضانات”، يوضح الباحث الرئيسي. ويضيف: “بالنظر إلى ضخامة الآثار الاجتماعية المحتملة لارتفاع مستوى سطح البحر، فإن الدراسات الإضافية حول هذا الموضوع ستكون مفيدةً لكسب إحساس أوسع بما يمكن أن يحدثه تغيُّر المناخ على الصحة العقلية للأفراد في المستقبل”.
واتساقًا مع نتائج الدراسة الحالية، نشرت دورية “نيتشر كلايمت تشينج” في أبريل الماضي، دراسةً تشير إلى مخاطر ما سمَّته “الحزن الإيكولوجي” الذي عرفته الدراسة على أنه استجابة طبيعية للخسائر البيئية التي قد تصبح أكثر شيوعًا مع تفاقم الآثار المترتبة على التغيرات المناخية. يقول معدو الدراسة إن الهدف من إجراء البحث هو التأكيد على أن تغير المناخ ليس مجرد مفهوم علمي مجرد، وإنما هو مصدر الكثير من الآلام العاطفية والنفسية غير المعترَف بها حتى الآن”.
الفئات المهددة
ورغم أن التهديدات تبدو عامة، إلا أن هناك فئات تظل الأكثر حساسيةً تجاه التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية؛ إذ توضح الدراسة الأخيرة أن أولئك الذين يعانون من حالات نفسية سابقة وحالة اجتماعية واقتصادية أقل، إضافة إلى النساء، هم الأكثر عرضةً للمخاطر. ووفق نتائج الدراسة فإن الصحة العقلية للأفراد ذوي الدخل المنخفض قد تتضرر أكثر بسبب تغير المناخ.
هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الدراسة أُجريت على أفراد من الولايات المتحدة الأمريكية، وهي بلد غني وتميل إلى المناخ المعتدل في أكثر أرجائها، وهو ما يعني أن المناطق ذات المناخ الأقل اعتدالًا والموارد الأقل سيكون حال سكانها أسوأ.
ووفق نتائج الدراسة فإن متوسط درجات الحرارة القصوى التي تزيد على 30 درجة مئوية يزيد من احتمال حدوث مشكلات في الصحة العقلية بنسبة أكثر من 1٪، مقارنة بمتوسط درجات حرارة يتراوح بين 10 درجات إلى 15 درجة مئوية. كما تزيد الأشهر التي تزيد فيها نسبة هطول الأمطار عن 25 يومًا من احتمال حدوث مشكلات في الصحة العقلية بنسبة 2٪ مقارنةً بالأشهر الأخرى.
وتدعم نتائج الدراسة الحالية دراسة أخرى نُشرت في دورية “نيتشر كلايمت تشينج” نهاية يوليو الماضي، تشير إلى أن ارتفاع درجات الحرارة يُسهم في زيادة معدلات الانتحار، ويرتبط أيضًا بتدهور الصحة العقلية وارتفاع معدلات الاكتئاب.
ووفق الدراسة فإن ارتفاع درجات الحرارة يمكن أن يؤدي إلى زيادة أعداد حالات الانتحار بين 9000 و40000 حالة سنويًّا في كلٍّ من الولايات المتحدة والمكسيك بحلول عام 2050، كما يتسبب في ارتفاع مستويات العدوانية بين الأفراد، ويؤدي إلى انتشار أعمال العنف والصراعات بين الجماعات.
يقول المؤلف الرئيسي للدراسة وأحد أبرز الباحثين في العلاقة بين التغير المناخي والصحة العقلية “مارشال بوركي” الباحث بجامعتي “ستانفورد” و”كامبريدج”، في تصريح لـ”للعلم”: إن أهم ما يميز الدراسة الجديدة هو أنها انتهت إلى أن درجات الحرارة المرتفعة قد لا تسبب فقط الموت بسبب سوء الحالة العقلية، وهو ما درسه “بوركي” في ورقته المشار إليها، بل تثبت أيضًا أن ارتفاع الحرارة مسبب قوي للاعتلال وانتشار الأمراض.
نتائج مميزة
ويتفق “إيهاب الرفاعي”، الأستاذ المشارك بقسم جراحة المخ والأعصاب في جامعتي القاهرة وجامعة غرايفسفالت الألمانية University of Greifswald، مع النتائج التي قدمتها الدراسة، ويربط بينها وبين حالات الاكتئاب الموسمي في الشتاء ببعض الدول الأوروبية القريبة من الدائرة القطبية الشمالية.
ويقول “الرفاعي”: إن بعض الباحثين يربط بين التغيرات المناخية التي حدثت في أوروبا الشمالية وتطور القوة العقلية للإنسان الأول وبداية استخدام النار.
تشير دراسة نُشرت في يوليو الماضي في دورية “ساينتفك ريبورتس” إلى أن إنسان النياندرتال هو أول مَن استخدم النار في أحد الكهوف في فرنسا قبل نحو 50 ألف سنة.
ويشير الرفاعي في تصريح لـ”للعلم” إلى أنه لا يزال هناك تبايُنٌ في كثير من الأطروحات العلمية في هذا الشأن (العلاقة بين المناخ والصحة العقلية).
ويوضح: “على سبيل المثال، رغم معاناة الدول الشمالية والإسكندنافية من ارتفاع نسبة الاكتئاب والانتحار في الشتاء القاسي، نجد هذه المناطق من الدول الأكثر إنتاجًا، بل نجد عبر التاريخ كثيرًا من المفكرين والعلماء قد طرحوا أفكارهم أو وضعوا نظرياتهم وهم يسكنون في بلاد شمالية وذات طبيعة مناخية غاية في القسوة”.
ويضيف: “كأن الإنتاج العقلي يعتمد على عوامل متعددة، من ضمنها المناخ، للوصول إما إلى حالة مزاجية منتجة أو إلى حالة مزاجية مضطربة. وعلى اتصال بهذه الفكرة طرح الباحثون قاعدة التعود (التكيف)، وهو الذي يغير الحالة العقلية المزاجية للبشر ويجعلهم أكثر ثباتًا، حتى في الظروف المناخية القاسية”.