ابتدأت السورة بالقَسَمِ بالتين والزيتون. والتين والزيتون قد يكون قصد بهما الشجران المعروفان، وقد ذكر المفسرون لاختيار هذين الشجرين للقسم بهما أسبابا عدة، فقد ذكروا أنه أقسم بنوعين من الشجر، نوع ثمره ليس في عجم، ونوع فيه عجم، وأنه ورد في الأثر أن التين من شجر الجنة، فقد روي أنه أُهديَ لرسول الله ﷺ طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: “كلوا فلو قلتُ إنَّ فاكهة نزلت من الجنة لقلتُ هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم”.. وقد ذكر أن آدم خصف من ورقه ليستر عورته حين انكشفت في الجنة.
وأما الزيتون فإنه شجرة مباركة كما جاء في التنزيل العزيز. وقد ذكروا أموراً أخرى لا داعي لسردها ههنا.
ولا ندري هل لبدء السورة بالقسم بالشجر الذي يذكر أن له أصلاً في الجنة أعني التين له علاقة بعدد آيات هذه السورة أو لا؟ فإن عدد آيات هذه السورة ثمانية وهُنَّ بعددِ أبواب الجنة. قد يكون هذا القول خَرْصاً محِضاً وأنا أميلُ إلى ذلك، ولكنا قد وجدنا شيئاً من أنواع هذه العلاقات في القرآن. فقد تكرر قوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] عند الكلام في وصف الجنة ثماني مرات بعدد أبواب الجنة، وحصل ذلك مرتين في السورة، وتكرر في الوعيد سبع مرات بعدد أبواب جهنم ابتداء من قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحمن: ٣١] .
وقالوا: إن سورة القدر ثلاثون كلمة بعدد أيام شهر رمضان، وإن قوله: (هي) في قوله تعالى: {سَلاَمٌ هِيَ حتى مَطْلَعِ الفجر} [القدر: ٥] هي الكلمة السابعة والعشرون، وهي إشارة إلى أن هذه الليلة هي الليلةُ السابعة والعشرون من رمضان.
وعلى أي حال فإن كثيراً من هذه العلاقات ربما كانت موافقات والله أعلم.
وقيل: إن المقصود بالتين والزيتون جبلان من الأرض المقدسة يقال لهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهما منبتا اليتن والزيتون.
والعلاقة بين التين والزيتون وما بعدهما ليس ظاهرة على هذا إلا بتكلُّف.
وقيل: “هذه محال ثلاثة بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. فالأول: محلة التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى بن مريم عليه السلام. والثاني: طور سينين وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة وهو البلد الأمين الذي مَنْ دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمداً ﷺ.
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : “فأقسم سبحانه بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر أنبيائه ورسله، أصحاب الشرائع العظام والأمم الكثيرة. فالتين والزيتون المراد به نفس الشجرتين المعروفتين ومنبتهما وهو أرض بيته المقدس … وهو مظهر عبد الله ورسوله وكلمته وروحه عيسى بن مريم. كما أن طور سينين مظهر عبده ورسوله وكليمه موسى، فإنه الجبل الذي كلمه عليه وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه.
ثم أقسم بالبلد الأمين وهو مكة مظهر خاتم أنبيائه ورسله سيد ولد آدم. وترقى في هذا القسم من الفاضل إلى الأفضل، فبدأ بموضع مظهر المسيح، ثم ثنى بموضع مظهر الكليم، ثم ختمه بموضع مظهر عبده ورسوله وأكرم الخلق عليه. ونظير هذا بعينه من التوراة التي أنزلها الله على كليمه موسى: (جاء من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من فاران) .
فمجيئه من طور سيناء بِعْثَتُه لموسى بن عمران، وبدأ به على حكم الترتيب الواقع، ثم ثنى بنبوة المسيح، ثم ختمه بنبوة محمد ﷺ”. وهذا هو الراجح فيما أرى لأن المناسبة بين هذه المحالّ المُقْسَمِ بها ظاهرة على هذا.
ثم لننظر إلى ترتيب هذه الأشياء المقسم بها.
فقد بدأ بالتين فالزيتون. والزيتون أشرف وأفضل من التين فقد شهد الله له أنه شجرة مباركة قال: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [النور: ٣٥] وهي فاكهة من وجه وإدامٌ من وجه وزيتها يُستعمَلُ في إنارة المصابيح والسُّرُج.
ثم أقسم بطور سينين وهو أفضل مما ذكر قبله، فإنه الجبل الذي كَلَّم الربُّ عليه موسى وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه.
ثم انظر من ناحية أخرى كيف وضع طور سينين بجوار الزيتون لا بجوار التين، وقد ورد ذكر الزيتون بجوار الطور في موطن آخر من التنزيل العزيز. قال تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} [المؤمنون: ٢٠] وهذه الشجرة هي شجرة الزيتون بإجماع المفسرين. قال الواحدي: “والمفسرون كلهم يقولون إن المراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون”.
ثم أقسم بالبلد الأمين وهو مكة المكرمة: مكان مولد رسول الله ﷺ ومبعثه ومكان البيت الذي هو هدى للعالمين. وهو أفضل البقاع عند الله وأحبها إليه كما جاء في الحديث الشريف، فتدرَّجَ من الفاضل إلى الأفضل ومن الشريف إلى الأشرف.
فأنت ترى أنه تدرّج من التين إلى الزيتون إلى طور سينين إلى بلد الله الأمين. فختم بموطن الرسالة الخاتمة أشرف الرسالات.
وقد وصف الله هذا البلد بصفة (الأمين) وهي فصفة اختيرت هنا اختياراً مقصوداً لا يَسدُّ مَسدَّها وصفٌ آخر.
فالأمين وصف يحتمل أن يكون من الأمانة، كما يحتمل أن يكون من الأمن. وكلا المعنيين مراد.
فمن حيث الأمانة وُصِفَ بالأمين لأنه مكانُ أداء الأمانة وهي الرسالة، والأمانة ينبغي أن تؤدى في مكان أمين. فالرسالة أمانة نزل بها الروح الأمين وهو جبريل، وأداها إلى الصادق الأمين وهو محمد، في البلد الأمين وهو مكة. فانظر كيف اختير الوصف هنا أحسنَ اختيار وأنسبه.
فالأمانة حملها رسولٌ موصوف بالأمانة فأداها إلى شخص موصوف بالأمانة في بلد موصوف بالأمانة.
جاء في (روح المعاني) : “وأمانته أن يحفظ مَنْ دخله كما يحفظ الأمين ما يُؤتَمَنُ عليه”.
وأما من حيث الأمن فهو البلد الآمن قبل الإسلام وبعده، دعا له سيدنا إبراهيم عليه السلام بالأمن قبل أن يكون بلداً وبعد أن صار بلداً فقال أولاً: {رَبِّ اجعل هاذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: ١٢٦] وقال فيما بعد: {رَبِّ اجعل هاذا البلد آمِناً} [إبراهيم: ٣٥] فهو مدعو له بالأمن من أبي الأنبياء. وقد استجاب الله سبحانه هذه الدعوة قال تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: ٩٧] . وقال: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: ١٢٥] .
فـ (الأمين) على هذا (فعيل) للمبالغة بمعنى الآمن. ويحتمل أن تكون (الأمين) فعيلاً بمعنى مفعول، مثل: جريح بمعنى مجروح وأسير بمعنى مأسور، أي: المأمون، وذلك لأنه مأمون الغوائل.
جاء في (روح المعاني) : “الأمين فعيل بمعنى فاعل أي الآمن من أمُن الرجل بضم الميم أمانةً فهو أمين … وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه … وأما بمعنى مفعول أي: المأمون من (أمنه) أي: لم يَخَفْهُ، ونسبته إلى البلد مجازية. والمأمون حقيقةً الناسُ، أي: لا تخاف غوائلهم فيه، أو الكلام على الحذف والإيصال أي: المأمون فيه من الغوائل”.
وجاء في (البحر المحيط) : “وأمين للمبالغة أي: آمنٌ مَنْ فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، أو من أمُن الرجل بضم الميم أمانة، فهو أمين كما يحفظ الأمين ما يُؤتَمنُ عليه. ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل”.
وقد تقول: ولم اختار لفظ (الأمين) على (الآمن) الذي تردد في مواطن آخرى من القرآن الكريم؟ قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص: ٥٧] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: ٦٧] .
والجواب: أنه باختياره لفظ (الأمين) جمع معنيي الأمن والأمانة، وجمع معنى اسم الفاعل واسم المفعول، وجمع الحقيقة والمجاز، فهو أمينٌ وآمن ومأمون، وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة.
ثم انظر إلى جواب القسم وهو قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} كيف تناسب مع المُقْسَمِ به تناسباً لطيفاً ولاءمه ملاءمة بديعة. فإنه أقسم بالرسالات على بداية الإنسان ونهايته فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وهذه بدايته، ثم قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وهذه نهايته.
“ثم لما كان الناس في إجابة هذه الدعوة فريقين منهم مَنْ أجاب ومنهم من أبى، ذكر حال الفريقين. فذكر حال الأكثرين وهم المردودون إلى أسفل سافلين” والآخرين وهم المؤمنون الذين لهم أجر غير ممنون.
ولما كانت الرسالات إنما هي منهج للإنسان وشريعة له، كان الجواب يتعلق بالإنسان طبيعة ومنهجاً، فذكر طبيعة الإنسان في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وذكر المنهج في قوله: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} .
وفي هذه إشارة إلى أن المنهج لا بد أن يكون متلائماً مع الطبيعة البشرية غير مناقض لها وإلا فشل.
فكان الجواب كما ترى أوفى جوابٍ وأكمله وأنسب شيء لما قبله وما بعده.
ثم انظر من ناحية أخرى إلى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فإنه أسند الخلق إلى نفسه ولم يَبْنِه للمجهول، وذلك أنه في موطن بيانِ عظيمِ قدرتهِ وحسن فعله وبديع صنعه فأسند ذلك إلى نفسه، وهذا في القرآن خط واضح، فإنه في مثلِ هذه المقام وفي مقام النعمة والتفضل بسند الأمر إلى نفسه، وهذا في القرآن خط واضح، فإنه في مثل هذا المقام وفي مقام النعمة والتفضل يسند الأمر إلى نفسه قال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: ١٨١] .
وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: ٧١-٧٢] .
فانظر كيف أسند الخلق في مقام النعمة والتفضّل إلى ذاته في حين قال: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء: ٢٨] ببناء الفعل للمجهول لما كان القصد بيان نقص الإنسان وضعفه. وقال: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: ٣٧] وق: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [المعارج: ١٩-٢١] .
فانظر إلى الفرق بين المقامين. وقد مر شيء من هذا في موطن سابق.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه أسند الخلق إلى نفسه لأن المقام مقام بيان منهج للإنسان، فأراد أن يبين أن واضع المنهج للإنسان هو خالق الإنسان ولا أحد غيره أعلم بما يَصلحُ له وما هو أنسب له، ولو بني الفعل للمجهول لم يفهم ذلك صراحة.
فأنت ترى أن إسناد الخلق إلى ذات الله العالية أنسب شيء في هذا المقام. وقد تقول: ولِمَ أسند الرد أسفل سافلين إلى نفسه فقال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وهذا ليس مقام تفضّل ولا بيان نعمة؟
فتقول: إن هذا الإسناد أنسب شيء ههنا ولا يليق غيره، وذلك أنه أراد أن يذكر أن بيده البداية والنهاية، وأنه القادر أولاً وأخيراً لا معقب لحكمه يفعل ما يشاء في البداية والختام، وهذا لا يكون إلا بإسناد الأمر إلى ذاته العلية.
ألا ترى أنه لو قال: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رُدّ أسفل سافلين) لكان يفهم ذاك أن هناك ردّاً غيره يفسدُ خلقته ويهدم ما بناه؟
ومعنى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أنه صيَّرهُ على أحسن ما يكون في الصورة والمعنى والإدراك وفي كل ما هو أحسن من الأمور المادية والمعنوية.
وقال بعدها: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فجاء بـ (ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي، لأن كونه أسفل سافلين لا يعاقب خلقه بل يتراخى عنه في الزمن، فهي من حيث الوقت تفيد التراخي، كما أنها من حيث الرتبة تفيد التراخي، فرتبة كونه في أحسن تقويم تتراخى وتبعد عن رتبة كونه في أسفل سافلين، فثمة بَوْنٌ بعيد بين الرتبتين فأفادت (ثم) ههنا التراخي الزماني والتراخي في الرتبة.
واختلف في معنى {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فذهب قسم من المفسرين إلى أن المقصود به أرذل العمر، والمراد بذلك: الهرم وضَعْف القُوى الظاهرة والباطنة وذهول العقل حتى يصير لا يعلم شيئاً.
ومعنى الاستثناء على هذا أن الصالحين من الهرمى لهم ثواب دائم غير منقطع يُكْتَبُ لهم في وقت شيخوختهم كما كان يكتب لهم في وقت صِحَّتِهم وقوتهم. وفي الحديث: “إنَّ المؤمن إذا رُدّ لأرذل العمر كُتِبَ له ما كان يعمل في قوته” وذلك أجر غير ممنون أي: غير منقطع.
وذهب آخرون إلى أن المقصود به أسفل الأماكن السافلة وهو جهنم أو الدرك الأسفل من النار.
ومعنى الاستثناء على هذا ظاهرٌ، فالصالحون مستثنون من الرد إلى ذلك.
وركز بعضهم على الخصائص الروحية. جاء (ظلال القرآن) : “والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية. فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرفُ عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها. فهو مهيأ لأن يبلغ من الرِّفعةِ مدى يفوق مقام الملائكة المقربين … بينما هذا الإنسان مهيأ حين ينتكس لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} . حيث تصبح البهائمُ أرفعَ وأقوم لاستقامتها على فطرتها …
{إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} ، فهؤلاء الذين يبقون على سوء الفطرة ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح. ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها”.
وظاهر أن معنى الآية يتسع لكل ما ذكروه، وهي تفيد أيضاً أن حياة غير المؤمن نكد وغم، وعيشة ضنك وشقاء قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: ١٢٤] وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: ٣١] .
فحياة هؤلاء هابطة سافلة بل هم في أسفل سافلين. ثم لننظر إلى الاستثناءء وهو قوله تعالى: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فإنه استثنى من الرد أسفل السافلين مَنْ آمن وعمل صالحاً ولم يزد على ذلك، فلم يقل مثل ما قال في سورة العصر: {والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: ١-٣] فبين لنا أن الإيمان والعمل الصالح يمنعه من الرد أسفل السافلين. ولكن لا يمنعه من الخسران الذي يفوته فيما لم تواصى بالحق وبالصبر فإنَّ كل من ترك شيئاً من ذلك خسر شيئاً من الأجر الذي كان يربحه فيما لو فعله، فانظر الفرق بين الموطنين وبين الاستثناءين.
جاء في (التبيان) : “وتأمل حكمة القرآن لما قال: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: ٢] فإنه ضَيَّقَ الاستثناء وخصصه فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: ٣] ولما قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وَسَّعَ الاستثناء وعَمَّمهُ فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: ٣] ولم يقل: (وتواصوا) فإن التواصي هو أمر الغير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدر زائد على مجرد فعله. فمن لم يكن كذلك فقد خسر هذا الربح فصار في خسر، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين.
فإن الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة زائدة. وقد تكون فرضاً على الأعيان. وقد تكون فرضاً على الكفاية وقد تكون مستحبة.
والتواصي بالحق يدخل فيه الحق الذي يجب، والحق الذي يُستحب، والصبر يدخل فيه الصبر الذي يجب والصبر الذي يُستحب. فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به. وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم. فمطلق الخسارة شيء والخسارة المطلق شيء”.
ثم قال {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قيل: ومعنى غير ممنون غير منقوص ولا منقطع، وقيل: معناه غير مكدر بالمنّ عليهم. والحق أن كل ذلك مراد وهو من صفات الثواب، لأنه يجب أن يكون غير منطقع ولا مُنَغَّصاً بالمِنَّة.
فقال: (غير ممنون) ليجمع هذه المعاني كلها، ولم يقل: غير مقطوع ولا نحو ذل فيفيد معنى دون آخر.
ثم انظر كيف زاد الفداء في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ولم يفعل مثل في آية شبيهة بها وهي قوله: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الإنشقاق: ٢٥] بدون فاء. وذلك لأن السياقين مختلفان. فسياق سورة الانشقاق أكثره في ذكر الكافرين، وقد أطال في ذكره ووصف عذابهم فقال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً * ويصلى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً * فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق * والليل وَمَا وَسَقَ * والقمر إِذَا اتسق * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ * فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ * بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: ١٠-٢٥] .
في حين لم يزد في الكلام على المؤمنين عن قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الإنشقاق: ٧-٩] .
فانظر كيف أطال في وصف الكافرين وأعمالهم وعقابهم، وأوجز في الكلام على المؤمنين، ولذا حذف الفاء من جزاء المؤمنين في سورة الانشقاق مناسبة للإيجاز، في حين لم يذكر الكافرين في سورة التين ولم يزد على أن قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} يعني الإنسان، وهو غير صريح في أن المقصود به الكافرون أو غيرهم كما أسلفنا.
ثم انظر إلى كل من السورتين كيف تناولت الكلام على الإنسان. فقد بدأت سورة الانشقاق بذكر كدح الإنسان ومشقته ونصبه: {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق: ٦] وتَوعَّده رَبُّه بركوب الأهوال والشدائد المتتابعة التي يفوق بعضها بعضاً في الشدة فقال: {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق * والليل وَمَا وَسَقَ * والقمر إِذَا اتسق * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} [الإنشقاق: ١٦-١٩] .
في حين بدأ في سورة التين بتكريم الإنسان فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فناسب ذلك تأكيد استمرار أجره وعدم تنغيصه، وذلك بزيادة الفاء في التين دون الانشقاق.
ثم قال بعدها: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين} . والمعنى: أي شيء يجعلك أيها الإنسان مكذّباً بالجزاء بعد هذه الدليل الواضح؟ والمعنى: أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي مع تحويله من حال إلى حال، أوضح دليل على قدرة الخالق على الحشر والنشر فإن الذي خلقك أقدر على أن يعيدك بعد موتك وينشئك خلقاً جديداً، وأن ذلك لو أعجزه لأعجزه خلقك الأول.
فانظر جلالة ارتباط هذا الكلام بما قبله. ثم انظر كيف استدل على الجزاء بالأدلة النقلية والعقلية. فالدليل النقلي هو ما أخبرت به الرسالات السماوية، وقد ذكر من هذه الرسالات كبراها وهي رسالات موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
والدليل العقلي هو الاستدلال بخلق الإنسان في أحسن تقويم وتدريجه في مراتب الزيادة والنقص.
ثم انظر كيف اختار كلمة (الدين) ولم يختر كلمة الجزاء أو الحساب أو النشور ونحوها، وذلك لما تقدم ذكر مواطن الرسالات ناسب ذلك ذكر الدين، لأن هذه أديان، ولأنه قد يراد بذلك معنى (الدين) علاوة على معنى الجزاء. والمعنى أي شيء يجعلك مكذباً بصحة الدين بعد هذه الأدلة المتقدمة؟ فالذي خلقك في أحسن تقويم يرسم لك أحسن منهج تسعد به في الدنيا وفي الآخرة. فجمعت كلمة (الدين) معنى الدين ومعنى الجزاء في آن واحد، ولو قال فما الذي يكذبك بالجزاء لم يجمع هذين المعنيين.
فأنت ترى أنه اختار كلمة (الدين) لتقع في موقعها المناسب لها تماماً. ثم قال بعدها: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} . و (أحكم الحاكمين) يحتمل أن يكون معناه أعظم ذوي الحكمة وأحسنهم تدبيراً، ويحتمل أن يكون معناه، أقضى القاضين، لأن (حكم) يحتمل أن يكون من الحكمة، ويحتمل أن يكون من القضاء وهو الفصل في المحاكم.
وعلى الوجه الأول يكون المعنى: أليس الذي فعل ذلك بأحكم الحاكمين صُنعاً وتدبيراً وأن حكمته بالغة لا حدود لها. وإذا تبين أن الله سبحانه أحكم الحاكمين – وهو بَيِّنٌ – تعَيَّنت الإعادة والجزاء لأن حكمته تأبى أن يُتركَ الإنسان سدى ولا يحاسب على أعماله، فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟ وهل ذلك إلا قَدْحٌ في حكمه وحكمته؟
وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: أليس الله بأقضى القاضين فيحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، كما قال تعالى: {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: ٤٦] .
فانظر قوة ارتباط هذه الآية بما قبلها على كلا الوجهين، فإن حكمته تقتضي الإعادة والجزاء. والجزاء والفصل بين الخلائق يقتضي وجود قاضٍ، بل يقتضي وجود أقضى القاضين.
فجمع بهذه العبارة معنيين: القضاء والحكمة، بل لقد جمع معاني عدة بهذا التعبير، إذ كل لفظ من (أحكم الحاكمين) يحتمل أن يكون بمعنى القضاء والحكمة فيكون قد جمع أربعة معان كلها مرادة وهي (أحكم الحاكمين) بمعنى: أكثرهم حكمة و (أقضى الحكماء) و (أقضى القضاة) (وأحكم القضاة) .
فانظر كيف جمع أربعة معان تؤدى بأربع عبارات في عبارة واحدة موجزة. ولو قال: (أقضى القاضين) لدلت على معنى واحد.
ثم انظر كيف جعل ذلك بأسلوب الاستفهام التقريري ولم يجعله بالأسلوب الخبري فهو لم يقل: (إن الله أحكم الحاكمين) ولا نحو ذلك، وإنما قرر المخاطب ليقوله بنفسه وليشترك في إصدار الحكم فيقول: بلى {وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} [الأنبياء: ٥٦] .
ثم انظر إلى ارتباط خاتمة السورة بفاتحتها، فإن فاتحة السورة في ذكر مواطن الرسالات العظمى وارتباطها بخاتمتها واضحٌ بيّن، فإن الذي أنزل هذه الشرائع العظيمة وما تضمنته من أحكام سامية هو أحكم الحاكمين.
ثم انظر إلى التنسيق الجميل في اختيار خواتم الآي، فإن خاتمة كل آية اختيرت لتجمع عدة معان في آن واحد. فاختيرت (الأمين) لتجمع معنيي الأمن والأمانة، (وأسفل سافلين) لتجمع معنى أرذل العمر ودركات جهنم السفلى. و (غير ممنون) لتجمع معنى غير مُنْقَطعٍ ولا مُنَغَّصٍ بالمِنَّة عليهم، وكلمة (الدين) لتجمع الجزاء والدين، و (أحكم الحاكمين) لتجمع الحكمة والقضاء.
فانظر هذه الدقة في الاختيار وهذا الحُسْنَ في التنسيق. أليس الذي قال ذلك بأحكم الحاكمين؟ بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.