يزعم بعض الكاتبين في نظام التكافل الاجتماعي أن التكافل الذي رفع العالم في العصر الحديث يمتاز على كل المحاولات التي بُذلت لمساعدة الفقراء والمساكين والضعاف والبائسين قبل بداية القرن العشرين ، يمتاز على هذه المحاولات بأنه يعتبر المساعدة التي تمنح للفقير والمسكين حقاً من الحقوق إذا توافرت بعض الشروط.

وهذا زعم باطل ، وجهل فاضح بحقائق الإسلام الذي كان أول دين يقرر للفقراء والمساكين حقاً معلوماً في أموال الأغنياء ، بل يجعل ذلك ركناً من أركانه.

فالزكاة التي أوجبها على الأغنياء حق محدد معين معلوم تستوفيه الدولة الإسلامية لأصحابه وتقاتل المانعين له حتى يؤدوه ، فكيف يزعم زاعم أن الفضل يرجع إلى نظم التكافل الأوروبية في اعتبار المساعدة التي تدفع للفقير حقاً من الحقوق إذا توافرت لها شروط معينة؟!!

إن اعتبار سهم الفقراء والمساكين في أموال الأغنياء حقاً معلوماً وديناً محدداً أمر جاء واضحاً وصريحاً في الكتاب والسنة منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً من الزمان..بل إن تصرفات الخلفاء والولاة وعمال الصدقات تؤكد هذه الحقيقة وتوضحها بما لا يدع مجالاً لحاقد أو جاهل ليزعم أن نظم التكافل الأوروبية هي أول من أسبغ هذه الصفة على ما يأخذه الفقير من مساعدات تُفرض له في أموال الأغنياء..قال تعالى:{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(الذاريات:19).

ويصف الحكيم الخبير عباده المؤمنين: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ . لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج:24-25).. ويقول جل في علاه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الأنعام:141).

فالزكاة حق معلوم محدد من حيث المال الذي يجب فيه الحق والمقدار الواجب منه ، ووقت الوجوب ، ومن يجب عليه ومن يجب له.

ولقد تولى الشارع بنفسه تحديد هذا الحق وبيانه ولم يترك ذلك لجود الموسرين ، وكرم المحسنين ، ومدى ما تنطوي عليه نفوسهم من رحمة ، وما تحمله قلوبهم من رغبة في البر والإحسان وحب فعل الخير..بل إن فقهاء المسلمين يقررون إن حق الفقير والمسكين في أموال الأغنياء من الحقوق التي تتعلق بالمال وتمنع المالك من التصرف فيه قبل أداء الزكاة ، ويبالغون في تأكيد هذا الحق فيرونه مقدماً على جميع ما عداه من الدين ، فالفقير والمسكين يستوفي قيمة الزكاة التي يستحقها في مال الغني قبل أن يأخذ جميع الدائنين حقوقهم من هذا المال.

إن ما يأخذه الفقير من مال الغني حق بكل خصائص الحق في الإسلام ، أما ما يأخذه الفقير من مساعدات في نظام التكافل الاجتماعي الذي يعرفه العالم اليوم فإن له شبهاً بالحق وليست له صفاته وخصائصه ، ولا قوته ولزومه ، كما يقرر دعاة هذه النظم أنفسهم ، ومما يؤيد القول بأن ما يستحقه الفقير في أموال الأغنياء يعد حقاً لازماً وديناً ثابتاً يجب على الغني دفعه ، ويلزم الدولة الإسلامية جمعه وتحصيله ، ثم أداؤه إلى الفقير ما رواه أبو عبيد في الأموال بسنده عن عمير بن سلمة قال:”بينما عمر نصف النهار قائل (القيلولة أي نومة الظهيرة) في ظل شجرة ، وإذا أعرابية فتوسمت في الناس(تفرست في وجوههم) فجاءته فقالت:إني امرأة مسكينة ، ولي بنون ، وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان بعث محمد بن سلمة ساعياً (يجمع الزكاة ويوزعها على الفقراء) ، فلم يعطنا ، فلعلك يرحمك الله أن تشفع لنا إليه، فقال: فصاح بيرفأ أن أدع لي محمد بن سلمة ، فقالت:إنه أنجح لحاجتي أن تقوم معي إليه، فقال:إنه سيفعل إن شاء الله ، فجاء يرفأ فقال:أجب ، فجاء فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين..فاستحيت المرأة ، فقال عمر: والله ما آلو أن اختار خياركم(أي لا أتهاون)..كيف أنت قائل إذا سأل الله عز وجل عن هذه؟..فدمعت عين محمد، ثم قال عمر: إن الله بعث إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم فصدقناه واتبعناه ، فعمل بما أمره  الله به، فجعل الصدقة لأهلها من المساكين ، حتى قبضه الله على ذلك،ثم استخلف أبا بكر فعمل بسنته حتى قبضه الله إليه ، ثم استخلفني فلم آل أن أختار خياركم ، إن بعثتك فأد إليها الصدقة العام و عام أول، وما أدري لعلي لا أبعثك ، ثم دعا لها بجمل فأعطاها دقيقاً وزيتاً ، وقال خذي هذا حتى تلحقينا بخيبر ، فإنا نريدها فأتته بخيبر فدعا لها بجملين آخرين وقال: خذي هذا فإن فيه بلاغاً حتى يأتيكم محمد بن سلمة ، فقد أمرته أن يعطيك حقك للعام وعام أول”(أبو عبيد:الأموال،ص530).

فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يَعُدّ ما تطلب به هذه المرأة حقاً لها ، ويؤكد أنه حق لازم ودين ثابت ، لا يسقط بالتقادم ، ولا يضيع بمرور الزمن ، ولا يفوت بعدم المطالبة ، ولذلك يأمر عامله على الزكاة أن يعطيها حقها من الزكاة للعام وهام أول ، فهو حق يُ قضى ودين يؤدى، والتزام على بيت مال المسلمين.

فهل عرفت نظم التكافل الحديث ذلك اليوم؟.وهل يجرؤ بعد ذلك جاهل بحقائق الإسلام أو حاقد عليه على القول بأن نظم التكافل الحديث الذي عرفه العالم في أوائل القرن العشرين هي التي منحت المساعدات التي تدفع للفقراء والمساكين صفة الحق الثابت بعد أن ظلت ما يزيد عن أربعة عشر قرناً من الزمان إحساناً فردياً وصدقة اختيارية.