الباعة المتجولون الذين تزدحم بهم أزقة وشوارع الأحياء الشعبية أصبحوا أكثر كثافة وضجيجا في العصر الرقمي، مع اختراق اعلاناتهم صفحات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والهواتف المحمولة، وباتوا قادرين على صناعة التشتت وإضعاف الانتباه لترويج منتجاتهم، فبعد قرابة العقدين على الانتشار الواسع للرقمية وتغلغلها في الحياة الإنسانية، انتبه البعض لتأثيراتها السلبية، صحيا وعقليا وسلوكيا واجتماعيا، وانحصرت التحذيرات بالكاد في محاولة التقليل من تداعياتها، ومن بينها حالة التشتت والإلهاء، التي تتلبس الشخص مع انغماسه في الرقمية، ووقوعه أسيرا للشاشات.
ولكن هل تؤثر الرقمية على أدمغتنا؟ وهل الاعتداء على انتباه الإنسان وتركيزه أزمة توجب التحذير؟ وهل مقاومة تشتت الإنسان في العصر الرقمي مشكلة فردية أم مجتمعية؟
قبل أكثر من اثني عشر عاما حذر ” نيكولاس كار” Nicholas Carr في كتابه “السطحيون: ما الذي تفعله الأنترنت بأدمغتنا” من تأثيرات الرقمية السلبية على العقل الإنساني، قائلا: “أننا عندما نبدأ في استخدام الويب كبديل للذاكرة الشخصية، فإننا نجازف بإفراغ عقولنا من ثرواتها” ، كذلك تحذير عالم النفس الأمريكي “لار روزين” Larry Rosen في كتابه “العقل المشتت” من التأثيرات السلبية للرقمية مهنيا وشخصيا، ودعوته لـفطم النفس عن الأجهزة الرقمية.
والحقيقة أن العلاقة بين الإنسان والرقمية في السنوات الأخيرة أحدثت تغيرات كبرى وعميقة في الحياة الإنسانية، فتشير تقارير واستطلاعات أن الإنسان أصبح أقل إنتاجية مع الرقمية، وأن الطلاب يطالعون هواتفهم ربما أكثر من مائة مرة في اليوم، وأن استعادة التركيز والانتباه مرة أخرى يستغرق وقتا طويلا، وبذلك يقضى غالبية البشر حياتهم بين التشتت ومحاولة استعادة الإنتباه، لذا ظهر مصطلح “الانحرافات التكنولوجية” والذي يشير إلى الإفراط في الاستخدام، ووصولا لمرحلة الإلهاء الرقمي Digital distraction.
صناعة عادة التشتت
ربما جعلت الرقمية حياتنا أكثر راحة لكنها لم تجعلها أكثر هدوءا، فقد باتت الرقمية من العادات الإنسانية التي لا يستطيع الشخص التخلي عنه، إذ أوجدت إدراكا إنسانيا أن تمدد الذات لا يتحقق من خلالها، فهي قادرة على قطع تركيز الشخص كل لحظة من خلال التنبيهات والاشعارات والإعلانات والإيميلات والواتس آب وغيرها، وهذا الضغط الرقمي المُلح يغرس التشتت، ويضعف التركيز، ويجبر الإنسان على ألا يمسك بوعيه وانتباهه إلا قليلا، لذا حذر باحثون من اختفاء القراءة العميقة، بسبب ضعف التركيز والتشتت، والفقدان السريع لخيوط الأفكار، ومن ثم صارت القراءة مع الرقمية نوعا ا من الصراع بين الإنتباه والتشتت، كذلك حذر آخرون من أن الرقمية قد يفوق تأثيرها على العقل تعاطي المخدرات.
ستتآكل قدرة الإنسان على التركيز، هذا التحذير أصبح شائعا في الوقت الراهن، ربما لأن الرقمية تُنشيء حالة من التيقظ الدائم، يصعب معها استجماع الإنسان لطاقته في الانتباه، لذا هناك حديث عن تغيرات هرمونية مع الرقمية تكشف عن وجود إدمان نتيجة الاستخدام المفرط، فمع الاستخدم ينتقل الشخص عبر صفحات ومواقع الويب، بسرعة واندفاع فلا يستقر في ذاكرته إلا القليل، مما يصيبه بالقلق والاكتئاب، يؤكد البروفيسور ” إدوارد بولمور” Edward Bullmore في كتابه “العقل الملتهب” على وجود علاقة بين الاكتئاب وضعف التركيز، وفي كتابه ” صنع العادات وكسر العادات” Making Habits Breaking Habits” يؤكد عالم النفس “جيريمي دين” Jeremy Dean أن صنع العادة قد لا يستغرق أكثر من ثلاثة أسابيع للتحول إلى سلوك دائم، لكن المهم الذي ذكره “دين” هو أن كثيرا من السلوك البشري يحدث دون اتخاذ أي قرار أو تفكير واع، ومعنى هذا أن استخدام الرقمية لأسابيع قد ينشيء عاداتها السلوكية، والتي تتعمق تدريجيا لتصبح إدمانا، ومع الإدمان يتشتت الإنسان.
تؤكد دراسات نفسية أن السلوك الدائم يضر بالصحة العقلية على المدى الطويل، فتحول السلوك إلى عادة لمدة طويلة له آثار نفسية وعقلية سلبية، لكن الغريب أنه يقف وراء بناء العادات الرقمية، مصالح اقتصادية، تديرها عقول واعية، وتنطلق من أبحاث استقصائية واسعة، فيتحدث “نير إيال” Nir Eyal في كتابه عن المنتجات التي تكون العادات، عن استخدام نموذج الخُطاف Hooked Model””، وهي عملية مكونة من أربع خطوات منهجية، تهدف من خلالها الشركات لجعل منتجاتها مندمجة مع السلوك الإنساني من خلال تكوين العادة، بعيدا عن اللجوء للإعلانات المكلفة، وتحقيقا للاستهلاك المستمر ، ومن الأشياء التي تناولها “إيال” التكرار، والحديث عن المنفعة المتصورة؛ أي المحفزات التي تغري بتغيير السلوك وتحوله إلى عادة، كذلك إخماد أي محفز داخلي يُقاوم تكون تلك العادة أو يرفضها.
والمعروف أن العادة ما هي إلا سلوك يتم مع القليل من التفكير الواعي أو بدونه، وكلما زاد الجهد البدني أو العقلي المطلوب في الأداء المطلوب، قل احتمال حدوث العادة، وربما هذا ما جعل شركات التكنولوجيا الرقمية تُصنع الموبايل ليكون أكثر سهولة في الاستخدام، ويلبي حاجات الإنسان ومتعه، وكل ذلك يغري الدماغ ليجبر الإنسان على سلوك معين، وهذا الإضعاف والإجبار قد لا يتأتى إلا من خلال التشتيت الدائم لمستخدمي الرقمية، لتصبح الرقمية عادة تستغرق غالبية يقظة الإنسان، وبذلك ينتهي التأثير الخارجي القادم من الاعلانات، لتتحول تلك العادة إلى نوعا من الاستثمار تستغله الشركات لبيع عادات الناس إلى شركات أخرى لجني الأرباح.
إنقاذ العقل
يؤكد “جاكوب وارد” Jacob Ward في كتابه ” الحلقة: كيف تخلق التكنولوجيا عالماً بلا اختيارات” أن الشركات تستخدم الذكاء الصناعي للتوصل إلى الأنماط السلوكية للناس، لتتنبأ بسلوكهم القادم للتأثير عليه وإخضاعه، وتنطلق تلك الأبحاث من فرضية أن السلوك البشري مبني على أنماط، والتوصل إليها يساهم في التنبؤ، وبالتالي استثمار تلك المعرفة لتحقيق الأرباح وترويج السلع والخدمات، وأن الاعتماد المفرط على الرقمية سهل الوصول لتلك الأنماط السلوكية، التي تحولت إلى أرباح كبيرة من خلال تحفيز التفكير السريع على اتخاذ قرارات محددة في الشراء، وهذا لا يتحقق إلا من خلال تشتتيت الإدراك الواعي في الإنسان، وتحويل السلوك إلى عادة لا تُقاوم.
والواقع أن تشتيت الانتباه هو مفتاح الربحية، فالمصالح الكبرى التي تقف وراء الرقمية تدعو أن تكون مواجهة الآثار السلبية للرقمية فردية، من خلال اتهام الفرد دوما بأنه هو من أساء التصرف، وأن عليه البحث عن طوق نجاة لنفسه، غير أن الحقيقة أن مشكلات الرقمية أصبحت إنسانية، وهو ما يفرض العمل بشكل جماعي ومجتمعي لمواجهة تلك الآثار، واستعادة العقل البشري المشتت، وربما هذا ما دفع الصحفي البريطاني يوهان هاري Johann Hari لاصدار كتابه “التركيز المسروق” عام 2022، منبها إلى تعرض البشرية لهجوم كبير في العصر الرقمي، وأن الإلهاء الرقمي مشكلة حقيقية، وأن تلك الأجهزة لن تنتهي، ولكن لابد من تعلم كيفية تسخيرها، نافيا الأسطورة التي يتم ترويجها من أن عدم قدرتنا على التركيز هو فشل في إرادة الإنسان في السيطرة على أجهزته الرقمية.